عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

ماذا بعد تفجير مانشستر؟

الإرهاب لا قاع له في درك الانحطاط الأخلاقي. كل جريمة من جرائم مخططيه ومنفذيه تتبعها أخرى تكون في العادة أكثر خسة في التكتيك والتنفيذ لإيقاع أكبر عدد من الضحايا. من تفخيخ السيارات والدراجات والحمير، إلى استخدام طائرات الركاب قنابل طائرة بقدرة كبيرة على التدمير والقتل العشوائي. ومن استهداف محطات القطارات والأسواق، إلى استهداف ملاعب الكرة وصالات الحفلات الغنائية ودهس الناس في الطرقات.
التفجير الانتحاري الذي استهدف مدينة مانشستر البريطانية يوم الاثنين الماضي أوقع 22 قتيلا، وهو رقم قد يرتفع لأن من بين 59 مصابا في المستشفيات هناك نحو 20 اعتبرت حالتهم «حرجة». غالبية الضحايا كانوا من الشباب والأطفال، لأن المفجر اختار أن يكون هدفه حفلا لمغنية ذات شعبية واسعة بين الشباب والأطفال، ووقت عمليته بحيث تتزامن مع لحظة خروج الناس من الحفل، بل وانتظرهم في صالة الخروج التي كان فيها عدد من الآباء والأمهات الذين أتوا لاصطحاب أبنائهم وبناتهم بعد نهاية الحفل.
التفجير كان فاجعاً، لكنه لم يكن مفاجئاً. فالسلطات البريطانية التي أحبطت 13 مخططا إرهابيا منذ عام 2013 بما في ذلك مخطط عملية كانت تستهدف تفجير أكبر مركز تسوق في وسط مدينة مانشستر عام 2009، أبقت على التأهب الأمني في مستوى «حاد»، وهو ثاني أعلى مستوى، عدة سنوات، لأنها كانت تعلم أن وقوع عمل إرهابي كبير يبقى احتمالا واردا بشدة، على الرغم من كل الإجراءات الأمنية وعمليات الرصد الاستخباراتية. فتنظيم داعش أعلن عدة مرات نيته مهاجمة بريطانيا، وبعد وقوع عمليات إرهابية في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، قال خبراء أمنيون إن شن عملية في بريطانيا هو مسألة وقت فقط.
وعلى الرغم من عملية قتل الجندي البريطاني لي ريغبي في 22 مايو (أيار) 2013 في أحد شوارع لندن على يد اثنين من المتطرفين، ثم عملية دهس عدد من المارة قرب مبنى برلمان ويستمنستر في مارس (آذار) الماضي التي قتل فيها خمسة أشخاص بينهم منفذ الجريمة خالد مسعود، فإن المحللين اعتبروا أن ذلك لم يقلل من نجاح السلطات في منع وقوع عمليات كبرى.
عملية التفجير في مانشستر كانت نقطة التحول التي تخوف منها كثيرون، لذلك بادرت السلطات أول من أمس إلى رفع مستوى التأهب الأمني إلى «حرج»، وهو أعلى مستوى، ويعني نشر مزيد من قوات الشرطة المسلحة، والاستعانة بقوات من الجيش للمساعدة في تأمين وحراسة المواقع والمنشآت الحساسة. هذا الإجراء الذي تعتبره السلطات مؤقتا اتخذ في ضوء المعلومات التي لا تستبعد أن يكون منفذ العملية سلمان رمضان العبيدي (22 عاما)، المولود في بريطانيا لأبوين مهاجرين من ليبيا، جزءا من شبكة أوسع تخطط لعمليات أخرى وشيكة.
السلطات ظلت تحذر من فترة أنه مع الهزائم المتلاحقة التي يتلقاها تنظيم داعش في العراق وسوريا وليبيا، يزداد خطر محاولته تنفيذ عمليات في المدن الأوروبية، لكي يقول إنه موجود وقادر على أن يضرب الغرب في عمقه. ويصبح خطر مثل هذه العمليات أكبر مع عودة أعداد من المواطنين الأوروبيين المسلمين الذين التحقوا بالتنظيم وقاتلوا معه خصوصا في سوريا والعراق. فالتقديرات تشير إلى أن أكثر من 850 من بريطانيا انضموا إلى «داعش» وقاتلوا في صفوفه، عاد منهم نحو 400 في الأشهر الأخيرة، ويتوقع عودة المزيد خلال الأسابيع المقبلة.
المشكلة أن مراقبة تحركات واتصالات كل هؤلاء، إضافة إلى 600 آخرين كانوا قد منعوا من السفر إلى العراق وسوريا، تمثل تحديا كبيرا للأجهزة الأمنية، وعبئا على مواردها، مما يعني أن بعضهم قد يفلت من شبكة الرقابة الأمنية، كما حدث في حالة العبيدي وفي حالات دواعش آخرين نفذوا عمليات في فرنسا وبلجيكا وألمانيا. فالعبيدي كان معروفا للأجهزة الأمنية، وهناك تقارير عن علاقات ربطته مع أحد أخطر دواعش بريطانيا وهو رافائيل هوستي المكنى بأبي القعقاع البريطاني، الذي قتل في غارة جوية استهدفته ومجموعة من مقاتلي «داعش» في سوريا في مايو (أيار) من العام الماضي، بعد أن نجح في تجنيد كثيرين للالتحاق بـ«داعش».
بريطانيا مثل كثير من الدول الغربية تواجه مشكلة متنامية مع «العائدين من سوريا والعراق وليبيا» من مواطنيها الذين تمكنت دعايات «داعش» و«القاعدة» من تجنيدهم. فالعمليات العسكرية لدحر «داعش» في سوريا والعراق أو حتى في ليبيا، لا تقدم حلا شاملا أو شافيا لمشكلة شباب ولدوا وعاشوا في الغرب، لكنهم سقطوا فريسة سهلة لدعايات المتطرفين. قضية هؤلاء تستدعي مع الإجراءات الأمنية والاستخباراتية، تعاونا أوسع مع القيادات الإسلامية والجاليات في الغرب لمواجهة الفكر المتطرف، وكذلك للتصدي للخطاب الذي يربط الإسلام بالإرهاب فيزيد من مشاعر الغبن والعزلة. قضية هؤلاء تفتح أيضا مسألة الاندماج والتصدي للعنصرية، وهذه قضية ربما تكون أعمق، وتحتاج إلى وقت أطول وجهود أكبر على مستوى الحكومات والجاليات.