خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

ذكاء وغباء

ترتبط الأمثال والأقوال الشائعة بالمحيط الذي نبتت فيه. هكذا نجد أن معظم الأمثال عند الإنجليز مثلا، ترتبط بالبحر فهذا هو المحيط الذي يحيط بهم. وكذا نجد أن معظم الأمثال والأقوال عندنا ترتبط بالصحراء وما فيها من أحياء، ولا سيما الجمال والكلاب. نباح الكلاب من مظاهرها. هكذا شاع بيننا القول القائل «أهون من النباح على السحاب». ويقال هذا المثل للتعبير عن عقم المحاولة وضياع الجهد. وهذا على سياق قول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
وكذا قيل على هذا الغرار المثل الشائع بيننا: «الكلاب تنبح ولكن القافلة تسير». وفي المنجد ما يقول كذلك في هذا الصدد: «أجل حتى يشيب الغراب». ومثله يقال: «أجل إلى ثلاثين شباط»، علما بأن شهر فبراير (شباط) لا يكون ثلاثين يوما قط. ومن الأمثال الشعبية الدارجة في هذا السياق أيضا قولهم في لبنان: «تيورق الصوان»، وهو حجر أصم. ويقول معظم العرب: «عنز ولو طارت!»
فالقول: «أهون من النباح على السحاب». يرتبط بحياة البادية ولا يعرفه أهل الحواضر. وتفسير المثل أن كلاب البادية تعيش في العراء دون سقف تلتجئ تحته من الشمس أو المطر. فإذا أمطرت السماء أجهدها المطر وعكر عليها منامها ومقامها. وعلى صغر عقلها أدركت الكلاب أن السحاب هو الجالب للمطر، فكانت إذا رأت غمامة تحوم في السماء، نبحت عليها سعيا منها لطردها وإبعادها! ولله في خلقه شؤون.
لذلك يقال أيضا: «لا يضر السحاب نباح الكلاب». وقال الشاعر في معنى ذلك:
ومالي لا أغزو وللدهر كرة
وقد نبحت تحت السماء كلابها
وقال آخر:
يا جابر بن عدي أنت مع زفر
كالكلب ينبح من بعد على القمر
هذا، ويشوب البيت الأخير بعض الغرابة كما لا بد أن نلاحظ، فالقمر لا يدل على تلبد السماء بالغيوم ولا على اقتراب هطول الأمطار. بيد أن أهل البادية أعرف بأحوال القمر. وكان مما عرفوه ولمسوه في أحواله أنه عندما يطلع القمر من المشرق يبدو كقطعة من الغيم فتنبح الكلاب عليها دفعا لمطرها. وللكلاب، على ما يظهر، ذكاؤها وغباؤها أيضا، ولكل وقته وظروفه، كبني آدم تماما.