وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

الطلاق من الذات

انطلاقة مطلب «طلاق» المملكة المتحدة من «زواج المصلحة» مع الاتحاد الأوروبي بدأت مع تذمر كثير من السياسيين والمحامين من الصلاحيات التشريعية لبروكسل (عاصمة الاتحاد) التي كادت، برأيهم، تطغى على تشريعات مجلس العموم البريطاني، وتتجاوزها في «تدخلها» بكل شاردة وواردة من الشأن العام البريطاني. ولم يعد سراً أن حالة «النفور» من الشريك الأوروبي فاقمها شعور كثير من البريطانيين بأن حدود بلادهم المفتوحة على أوروبا، خصوصاً أوروبا الشرقية، حولت المملكة المتحدة إلى «فرصة عمل» أفضل، وأجزى، لطالبي الهجرة الاقتصادية في أوروبا الشرقية، وشرّعت أبوابها لمنافسة يد عاملة خارجية أرخص أجراً، دوماً، وأكثر كفاءة أحياناً.
ولكن، مع بدء مفاوضات الطلاق، أخذت مشاعر البريطانيين حيال «القارة» الأوروبية تتخذ طابعاً قومياً، بل شوفينياً، اختصرته صحيفة شعبية بعنوان عريض على صفحتها الأولى يبشّر بـ«الحرية» (من الاتحاد الأوروبي طبعاً).
في دولة معروفة بتسامحها العرقي والديني، متميّزة بمجتمعها التعددي، لافت أن يتحول مطلب سياسي الطابع - بصرف النظر عن خلفيتيه الاقتصادية والتشريعية - إلى مطلب قومي، بالدرجة الأولى، يتجاهل واقع الجزيرة البريطانية، فمهما تميّزت بريطانيا بأنغلوساكسونيتها عن جاراتها الأوروبيات تبقى، جغرافياً، جزءاً لا يتجزأ من القارة الأوروبية، وتاريخياً، فصلاً رئيسياً في مسار أوروبا ومصيرها. في هذا السياق، يعتبر طلاق بريطانيا من الاتحاد الأوروبي طلاقاً من الذات، قبل أن يكون طلاقاً من الغير.
إلا أن المستغرب، على هذا الصعيد، أن تتزامن إجراءات طلاق بريطانيا، وما تستتبعه من تباعد مع أوروبا، مع بروز ظاهرة أنغلوساكسونية شعبوية في الولايات المتحدة، قد تصل عدواها إلى بريطانيا في حال أصبحت الولايات المتحدة، بعد الطلاق البريطاني - الأوروبي، «البديل» السياسي والتجاري للاتحاد الأوروبي.
حتى اللحظة، لم تحذُ أي دولة أوروبية حذو المملكة المتحدة في الخروج عن الاتحاد الأوروبي، وإن كان كثير من الأحزاب الأوروبية يلوّح بهذا الاحتمال. ولكن خروج بريطانيا بالذات من الأسرة الأوروبية - بقدر ما يضعف أوروبا ويقوي الأسرة - قد يؤدي إلى قسمة الغرب إلى غربين: غرب أنغلوساكسوني قوامه الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وغرب أوروبي محوراه الأساسيان ألمانيا وفرنسا. وقد لا يكون مستبعداً، في ظل التململ الأوروبي الراهن من شعبوية الرئيس الأميركي دونالد ترمب، أن تؤسس هذه القسمة لمزيد من الاستقلال الأوروبي عن الموقف الأميركي من القضايا الدولية، خصوصاً إذا ساير الرئيس فلاديمير بوتين جيرانه الأوروبيين، ولم يحيي بدوافعه التوسعية الخطر السوفياتي الذي وحد الغربيين عسكرياً في عهد النظام السوفياتي.
إجراءات طلاق بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا تزال في بداياتها، وتداخل الاعتبارات السياسية والاقتصادية فيها يوحي بأن ثمن الطلاق سيكون مكلفاً، مما يعني أن جردة حساب الربح والخسارة يصعب احتسابها قبل انقضاء فترة زمنية كافية لمعرفة ما جناه منه الطرفان البريطاني والأوروبي، فالطلاق - كالزواج - صفقة ثنائية لا تخلو من رابح وخاسر.
بانتظار أن تتضح تبعات الطلاق، الاقتصادية والسياسية، يبقى الرابحون المؤكدون من عملية الطلاق المستشارين القانونيين والتجاريين للطرفين... أما على المدى البعيد، وإذا صح اعتماد مقاربة تفاؤلية، نادراً ما تصح في استقراء مستقبل العلاقات العربية - الغربية، يجوز إدراج القضية الفلسطينية في خانة الرابحين من الطلاق البريطاني - الأوروبي، إنْ هو أدى إلى تكريس استقلال القرار الأوروبي عن الهيمنة السياسية الأميركية عليه.