د. عبد الجليل الساعدي
TT

كيف نكون عربا ومعاصرين؟

قيل تحت هذا العنوان كلام فكري ثقيل في ثمانينات القرن الماضي.
لكني هنا لا أشير إلى النخبة ولا إلى الدولة، كما فعل الصادق النيهوم، إنما أشير إلى الفرد.
غليان وثوران لأتفه الأسباب، فشل ذريع في مواجهة الأحداث والنوازل ومجابهتها.. التحسّر والنواح.. التأفف لأدنى الأعراض الطارئة التي تطول الفرد.. عداء واصطدام بين الأفراد.. شغف مطلق بالماديات.. إزدراء القوانين.. جسوم أنهكتها الأحقاد والمنازعات..
نلعن دولنا، ولا نعرف أن هذا ليس هو الحل. إنما الحل هو البداية من الداخل.. الداخل الذي لا يريد أحد أن يدخل إليه.. البداية من داخل أغوار النفس. فالدعوة إلى التغيير ينبغي أن تبدأ من الفرد نفسه.. من الأغوار العميقة المكونة للنفس الإنسانية. هذه هي البداية السليمة للتغيير والانطلاق والتحضر.
يسمع الناس في البلاد العربية كلمة الحرية، ويظنون أنها تلتقط بالأيدي، يتصورونها بهذه السهولة، ويرون أن في استطاعتهم نيلها والاستحواذ عليها. وفوق هذا يعتقدون أن العداء المطلق للحاكم وللدولة، هو السبيل الوحيد لتحقيق هذه الغاية. ولا يتورعون ـ لأسباب عدة ـ أن ينساقوا وراء متزمت مغامر سواء أكان عصريا (المثقفون العرب وحتى رجل الشارع أيضا، أضحوا يستعملون كلمة ليبرالي حتى جرّدوها من محتواها، وأصبحت أثرا بعد عين) أم «أثريًّا»، يحرضُهم على الخروج في مظاهرة باسم الحرية. هذه هي الصورة النمطية للحرية في البلاد العربية.
لكن ما يثير الغرابة أكثر، هو أن هذا الوله بالحرية، يقابله جموح وكره لا حدود لهما للتقيد بالقوانين، لأنهم لا يرون أن الامتثال للقوانين هو الحرية عينها.
قال جون لوك الغابر مرة إن «غياب القانون يعني غياب الحرية». هذا الفيلسوف السياسي الإنجليزي، نَبَسَ بهذا الكلام عام 1688 بعد ثورة مواطنيه الكبرى، عندما رأى الناس ينشدون الحرية، ولا يتقيّدون بالقوانين.
بنى الإنسان الحواضر، وازدادت أعداد الناس وبخاصة في أيام الرفاه، وأضحى الإنسان يتصور أشياء يودّ نيلها أو تحقيقها، وبخاصة في ظل تداخل الثقافات وتقاربها، واختلاط الحابل بالنابل في هذه المدن.
في هذا الخضم الآدمي، لا يمكن للناس أن يتركوا سدى من دون سراة.
لذا كان لزاما وضع ضوابط لهذه الجماعات المكتظة في مكان محدود المساحة. هذه الضوابط سموها قوانين أو مراسيم أو تشريعات. القوانين مرتبطة ارتباطا شرطيا بالحرية. فلا قوانين بلا حرية، ولا حرية بلا قوانين.
لا يمكن لنا أن نفعل ما نشاء، لأننا ارتضينا العيش في مكان يسكنه أناس غيرنا، لا يرون أن ما نفعله صواب بل جرم. فمن أراد أن يفعل ما يشاء، فما عليه إلا أن يترك الجماعة، ويرحل وحيدا في البراري.
في البلاد العربية لا يرضى المواطن أن يوقفه شرطي واقف كعمود لتنظيم حركة السير، تحت لهب الشمس الحارق. لأنه يرى في ذلك إهانة له، وجرحا لكبريائه المفترضة، وإن خالفه ذهب للاستنجاد بأحد الوسطاء ليبطل له المخالفة.
في البلاد العربية تتدخل القبيلة لعرقلة القانون ولحماية أبنائها على حسابه.
في البلاد العربية يرهق الأب نفسه للتوسط لابنه، لكي يقبل في كلية معينة، اختارها الأب ولا يريدها الابن.
في البلاد العربية يمتثل الناس لما يقوله شيخ القبيلة، لا لما يقوله القانون.
وفي هذا اليباب يعود خريجو الجامعات البريطانية والأميركية، ليسمعوا ما يوصي به شيخ القبيلة، متجاهلين ما يفرضه القانون.
هم يطالبون بالعدالة ويقفون ضدها، إذا سارت ضد رغباتهم. يطالبون بالحرية ولا يرضونها لغيرهم.
الإنسان العربي لا يستطيع التخلص من أمانيه التي لا يستطيع تحقيقها.
هم لا يعلمون أنه حتى في أوروبا لا يستطيع الإنسان أن يفعل ما يروق له. بل إن هناك صرامة فيها إفراط عندما يتعلق الأمر بأمن الآخرين وراحتهم.
ففي الغرب مثلا وفي بريطانيا خاصة، لا تسمح القوانين (غير المكتوبة) ـ بأي حال من الأحوال ـ بمشاكسة النساء في الشوارع، وتعدّها، بل يعدها الناس أنفسهم في هذه البقعة، أفعالا لا تليق بالبشر، حتى أيام القرون الوسطى. فكيف يمارس.. كثير من الشباب في البلاد العربية والإسلامية مثل هذه الأشياء، وهم يعلمون أنها ليست فقط ضد الذوق والعقل، بل ضد القوانين، والدين؟ نطالب بالحرية وننتهك حرية الآخرين! ننشد العدالة ونظلم الآخرين، نحب أنفسنا ونزدري الآخرين!
يقول جان جاك روسو قبل أكثر من ثلاثة قرون ونصف القرن إن «قوانين الحرية قد تغدو أكثر قسوة وصرامة من استبداد الحكم التسلطي نفسه».
لا نريد أن نغالي مثل روسو، ولكن ينبغي للناس أن يدركوا ما تعنيه كلمة الحرية، وكيف يمكن للإنسان أن يعيشها في ظل هذا الخضم الآدمي، وهذه الزيادة الحادة في عدد سكان كوكبنا، من دون ضوابط تبدو أنها استعبادية، لكنها تمنح الأمن وهو أغلى وأعز من الحرية نفسها؟!
الإجابة عن السؤال لا تحتاج إلى عناء إذاً...