د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

نهاية أخرى للتاريخ؟

هل تذكرون فرانسيس فوكاياما الذي كتب مقالاً طويلاً صار كتاباً كبيراً فيما بعد تحت عنوان «نهاية التاريخ». كان ذلك قبل ربع قرن تقريباً، أعطانا الله وأعطاكم طول العمر والصحة، وقام ساعتها على فرضية انتهاء الجدل التاريخي بعد أن زالت المتناقضات مع الانتصار النهائي لليبرالية علي غريمتها الشيوعية. ولما كان هذا الجدل هو المحرك الأساسي للانتقالات الكمية والكيفية في حركة الأحداث التي مع تراكمها تصير تاريخاً؛ فإن التاريخ يصل إلى نهايته عندما يستسلم «النقيض» ولا يصير أمامه إلا اللحاق بالغريم. لم تكن نهاية التاريخ ساعتها هي نهاية الأحداث أو التطورات أو حركة البشر في عمومها، أو حتى تطورات قوى الإنتاج وعلاقاتها؛ وإنما كانت نهاية «الجدل» خاصة بالمعني الهيغلي للكلمة، حيث يكون تناقض الأفكار وتركيباتها هي المولد لطاقة الزمن وتحولاته. أما وقد انهارت الشيوعية، وسقط الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو، وجلست على قارعة الطريق حركات التحرر الوطني في دول العالم الثالث، وحركة عدم الانحياز وغيرها من مواليد التناقض الدولي، ولم يعد في العالم نظام يقتدى به إلا الليبرالية؛ فإن التاريخ وصل إلى نهايته، وما بقي لم يعد أكثر من مناوشات على مسارح هامشية، سواء بين الدول أو داخل المجتمعات.
ورغم لمعان الفكرة، وظهورها في الوقت المناسب بينما العالم الغربي يسير مزهواً على قمة العالم، فإن الفكر السياسي الدولي بما فيها ذلك الذي في الغرب ذاته، فإن فكرة زوال الجدل ظلت موضع مجادلة وشك. وربما كان صمويل هنتنغتون هو الذي تحدى الفكرة حينما طرح نظرية «صراع الحضارات» في مقال صار كتاباً فيما بعد، مشيراً إلى نوعية جديدة من التناقضات التي انبعثت من مفهوم أكثر اتساعاً من قوى الإنتاج وعلاقاتها، لكي يصل إلى «الحضارة» بأبعادها المختلفة واتساعها للكثير من التاريخ والتقاليد والقيم والأديان. وبغض النظر عن تنافس الأفكار؛ فقد كان الواقع أكثر غنى حتى من النظريات التي جاءت لتفسيره، فقد كان الاتساع الذي جرى للاتحاد الأوروبي (بدأ بست دول وانتهي إلى 28) وتعميقه عن طريق الحجاب الأمني (الشنغن) والحجاب الاقتصادي (منطقة اليورو)، مدعاة إلى انتشار المنظمات الدولية الإقليمية التي تركز على وظائف اقتصادية واجتماعية، وحتى المنظمات التي جمعت بين دول بعيدة عن بعضها جغرافيا، ولكنها متشابهة في درجة التطور والنمو الاقتصادي (دول البريكس التي ضمت البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، ودول العشرين التي جاءتها وظيفة حماية النظام الاقتصادي العالمي من السقوط بعد الأزمة المالية والاقتصادية عام 2008. ولم تكن المسألة مجرد مؤسسات دولية، أو حتى دعما متزايدا للأمم المتحدة خاصة مع تولي باراك أوباما الإدارة في الولايات المتحدة، ولكن بدأت موضوعات مثل الهجرة، والانتقال بين الدول، وتعميق ظاهرة المصنع العالمي، حيث يشترك الكثير من الدول في إنتاج سلعة ما، وحتى أشكال المطارات والموانئ تغيرت لكي تحتضن تحركات عالمية لم يعرفها التاريخ من قبل. وجرى كل ذلك بينما تطورات التكنولوجيا المعلوماتية تساند تفعيل ذلك الاتجاه الواضح الغامض المعروف
بالعولمة.
كان الواقع باختصار يؤكد أن شيئاً عالمياً يجري، ومهما كانت الفلسفات والنظريات قاطعة في حكمها، فإن ما يجري في الحقيقة كان هو ما يشاهده الناس ويعتقدون فيه. وحتى عام مضى، أو أكثر قليلاً، كان ما يُقرأ ويُشاهد هو «الحكمة الذائعة»؛ ولكن شيئاً ما جرى خلال هذا العام المنصرم دفع خلال الشهور الأخيرة منه إلى فيضان من الكتابات تكتب صراحة عن «نهاية الليبرالية» و«نهاية العولمة». بعضاً من هذا جرى رصده وتحليله في هذا المقام من قبل في معرض الأحداث التي جاءت متفرقة، ولكنها سرعان ما عبرت عن تيار واسع، بدءاً من «البريكسيت» والخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، والدماء التي تدفقت إلى أوصال اليمين الأوروبي حتى باتت عنصريته فاضحة، وانعزاليته صادمة. ومن بعدهما وصول دونالد ترمب إلى البيت الأبيض على أكتاف «القوميين البيض»، وعودة السويد إلى نظام التجنيد العسكري، وقيام الصين بمد أراضيها في بحر الصين الجنوبي عن طريق جزر صناعية، وقيام روسيا بضم أراضٍ في جورجيا وأوكرانيا، وأخيراً وجودها العسكري في سوريا. وكل ذلك محاط بنوع جديد من الحروب الدامية بين تحالفات عالمية وإقليمية متعددة والراديكالية المتأسلمة تحت أسماء منها «القاعدة» و«داعش» ومعهما تنظيمات ومنظمات عابرة للقوميات لا يجمعها إلا اعتماد الإرهاب سلاحاً ضد البشرية جمعاء.
وصل التاريخ إلى نهايته مرة أخرى، وبسرعة هذه المرة، وعندما وضعت الولايات المتحدة قيوداً في الهجرة على سبع دول ذات أغلبية مسلمة، وفرضت ضرورة الحصول على «الفيزا» لمواطنين من دول حليفة (32 دولة)، وقيام الاتحاد الأوروبي بفرض قيود مضادة، فإن العولمة فقدت الكثير من عفتها وقدرتها على تجسيد التواصل بين الدول، بما فيها تلك الواقعة في المعسكر الغربي. وكانت النهاية هذه المرة على يد نظرية «صعود القوميات»، فلم تكن صيحة دونالد ترمب «أميركا أولاً» هي أولى الصيحات، بل كان الكثير منها يتردد في دول أخرى مصحوباً بالدعوة إلى العزلة عن عالم موبوء بالخوف والخطر والمهاجرين والفقراء. بشكل ما، فإن ما طرحه المتأسلمون الراديكاليون حول حقيقة الغرب والعالم بات كما لو كان النبوءة المحققة لذاتها، فقد كان اعتبار الغرب «شيطاناً رجيماً محملاً بالعنصرية ومنقوعاً في الخطيئة»، وشن الحرب عليه وعلى نمط حياته؛ كما لو كان القوة المفجرة لكل ذلك، وصعوده فوق المؤسسات والأفكار الليبرالية التي تحض على المساواة والحرية للجميع بغض النظر عن اللون والدين والعرق، إلى آخر المعزوفات الليبرالية. ومؤخراً، فإن حديث ترمب ليس عن هزيمة الإرهاب، وإنما إبادة المتأسلمين الراديكاليين من على وجه البسيطة أشبه بصيحات سمعتها البشرية من قبل عن ضرورة إبادة أجناس وضيعة، أو لها أفكار مثل الشيوعية حقيرة.
السؤال المطروح الآن هو: هل هذه النهاية الأخيرة للتاريخ هي بالفعل آخر الكلمات والنظريات، أم أننا أمام «نوبة» مؤقتة ولدتها ظروف دولية معاكسة تظهر دائماً أثناء المسيرة التاريخية. فالتاريخ لا يسير أبداً في خط مستقيم، وما نشاهده الآن ربما لن يزيد على ظاهرة عارضة لبضع سنوات، ومن بعدها تهدأ العواصف، وتسير سفينة نوح العالمية في مسارها. فالتطورات التكنولوجية والعلمية لم تتوقف، بل إنها تضاعفت في سرعتها من خلال ما بات معروفاً بالثورة الصناعية والتكنولوجية الرابعة. ومثل هذه التطورات لا يمكن لها أن تبقى في المعامل أو في مجتمع واحد؛ فهي بطبيعتها «عالمية»، وتحتاج سوقاً «عالمية» لكي تصل إلى تطورها الطبيعي. وهل ممكن أن تعود السيرة القومية سيرتها الأولى في وقت انتشرت فيه الأسلحة النووية وأدوات التدمير الشامل، بحيث لا يمكن تصور عودة للحروب الإقليمية والعالمية التي عرفها العالم من قبل؟... كل ذلك قد يجعل الظواهر عارضة، ولكن حقيقتها كذلك لا تجعلها بريئة من التحدي الذي تمثله في وقتها للتحليل والفهم وصنع القرار السياسي إزاءها.