د. عبد المنعم سعيد
عضو مجلس الشيوخ المصري حالياً، ورئيس مجلس إدارة «مؤسسة المصري اليوم» الصحافية في القاهرة، ورئيس اللجنة الاستشارية لـ«المجلس المصري للدراسات الاستراتيجية»، وسابقاً كان رئيساً لمجلس إدارة «مؤسسة الأهرام» الصحافية، و«مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية»، و«المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية»، وعضو مجلس الشورى المصري. كاتب في صحيفة «الشرق الأوسط» منذ عام 2004، و«الأهرام» و«المصري اليوم»... وعدد من الصحف العربية. أكاديمي في الجامعات والمعاهد المصرية، وزميل زائر في جامعة «برانديز» الأميركية، ومؤلف للعديد من الكتب.
TT

الطريق إلى الجنادرية

أخيرا شاءت الأقدار أن أشهد مهرجان «الجنادرية» أو حسب اسمه الرسمي «فعاليات المهرجان الوطني للتراث والثقافة» في الرياض بالمملكة العربية السعودية. لم تكن هي المرة الأولى التي أدعى فيها إلى هذا الملتقى الثقافي المهم، ولكن الأقدار لم تسمح بالحضور إلا هذا العام. على أي الأحوال كان نصيبي من «الفعاليات» المشاركة في جلسة بعنوان «مهددات النظام الإقليمي العربي» وفيها طرحت قائمة من ستة مصادر للتهديد.
أولها أن اللحظة الراهنة تحمل تراكمات السنوات الست الماضية، والتي نجم عنها ما عرف بالربيع العربي، الذي لم يلبث أن تحول إلى عواصف رملية ساخنة أضعف الدولة العربية أكثر مما كانت عليه قبل نشوبه، بحيث باتت ضعيفة المناعة في مواجهة ضغوط داخلية وخارجية صعبة. ومنذ عام 2011 فإن النظام الإقليمي العربي بات يواجه توازنا استراتيجيا مختلا بدول فاشلة في بعض دوله، وأصبحت منطقة المشرق العربي بأكملها منهارة في العراق وسوريا ولبنان وفلسطين. هذه البيئة إذا ما أضيفت إلى عوامل الانكشاف الداخلية لدول الإقليم بما توفره من عمليات تهريب الأسلحة من كل الاتجاهات، فإنها تخلق حالة محملة بالمخاطر. ومع تزايد أعداد اللاجئين، وتصاعد الأحمال الاقتصادية للمساعدات في ظل تراجع أسعار النفط منذ يونيو (حزيران) 2014، فإن المخاطر الأمنية في الإقليم باتت أكثر إلحاحا من أي وقت مضي.
وثانيها، منذ مطلع السبعينات من القرن الماضي، وعلى مدى ثلاثة عقود تالية فإن الغرب تحت قيادة الولايات المتحدة كان قريبا من مصر والدول العربية المحافظة. ولكن هذه الدول بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) 2001 في الولايات المتحدة، بدأت تتشكك في جدارة هذا التأييد نتيجة ما رأته من «جمود» لدى النظم العربية، وبعد موجة من الحماس لثورة «الياسمين» في تونس، و«اللوتس» في مصر، وما نجم عن «الربيع العربي» من نتائج كارثية، فإن الدول الغربية أخذت تشك في قدرة الدول العربية على التحديث والتغيير الديمقراطي. وفي الحقيقة فإن مصر تحولت رسميا من كون أنها «حليف استراتيجي» للولايات المتحدة إلى «لا حليف ولا عدو»، ورغم أن عبارات مماثلة لم تذكر فيما يخص باقي الدول العربية الحليفة، فإن توترا في العلاقات أخذ في الظهور بين الولايات المتحدة ودول الخليج بعد ثورة 30 يونيو 2013 في مصر. ولذلك ربما لم تكن هناك صدفة في أن الغرب والولايات المتحدة في مقدمته بات على استعداد للتواؤم مع إيران فيما يتعلق بالمسألة النووية. وربما أضيف إلى ذلك أن الولايات المتحدة والدول الغربية قد نجحت من خلال التكنولوجيا والتعاون مع دول أخرى منتجة للنفط في تخفيض الاعتماد الغربي على النفط العربي، بل وتخفيض أسعاره بمقدار 60 في المائة بين يونيو 2014 ويونيو 2015، وليس معنى ذلك أن التحالف الغربي مع الدول العربية قد انتهى، ولكن كل ذلك يفرض على المنظومة العربية الأمنية الراهنة أن تتعامل مع واقع مختلف في العلاقات مع الولايات المتحدة والغرب عامة.
وثالثها، أن حربا محتملة على الموارد الطبيعية سواء الماء أو النفط باتت ماثلة ومهددة للاستقرار الإقليمي. فقد وجدت إثيوبيا في فترة «الربيع المصري» فرصة عظيمة للسير في مشروع «سد النهضة» على النيل الأزرق والذي من المقدر أن يعرض حجم المياه القادمة إلى مصر، والكهرباء المولدة من السد العالي للخطر. وشجع التوجه الإثيوبي دول حوض النيل الأخرى على السير في نفس الاتجاه ببحث إقامة مشروعات على نهر النيل، دون التشاور أو الحصول على الموافقة مع مصر. مثل هذه التوترات الخاصة بمصر موجودة في سوريا والعراق وليبيا حيث نجد الصراعات القائمة تتمحور حول التوزيع الجغرافي لآبار النفط. إن عملية إنشاء «دولة الخلافة» المزعومة من قبل «داعش»، وقيام الإقليم الكردي في العراق بالسيطرة على كركوك، كانت بالإضافة إلى أسباب ديموغرافية واستراتيجية أخرى، تقوم على التنافس على الموارد النفطية.
ورابعها، شكّل توقيع اتفاقيتي السلام بين مصر وإسرائيل عام 1978، وبين إسرائيل والأردن عام 1994، وعملية السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل انطلاقا من اتفاق أوسلو في 1993، جزءا أساسيا من الأمن الإقليمي خلال العقود الأربعة الماضية. ولكن عوامل كثيرة تداخلت لكي تعرض السلام وعملية السلام العربية - الإسرائيلية لأخطار كبيرة يمكن إيجازها في عاملين: فشل الولايات المتحدة والأطراف المعنية في التوصل إلى اتفاقيات سلام رغم المحاولات المتكررة من كل الإدارات الأميركية تقريبا. والظروف التي تولدت عن «الربيع العربي» التي من ناحية جعلت سيناء مرتعا لجماعة «بيت المقدس» الإرهابية التي أعلنت ولاءها لـ«داعش» في الموصل؛ ومن ناحية أخرى جعلت سوريا مرتعا لـ«حزب الله» ومن ثم ضربات إسرائيلية متعددة؛ ومن ناحية ثالثة أدت الفوضى السورية، والفراغ العراقي، إلى عمليات نزوح وضغوط متعددة على الأردن ولبنان أضعفت الدولة وإمكانياتها. هذه الأسباب جعلت الحدود العربية الإسرائيلية متوترة وقابلة للاشتعال.
وخامسها، وضعت دول الجوار الجغرافي آمالا كبيرة على «الربيع العربي» لتحقيق بعض من طموحاتها، فكما رأينا أن إثيوبيا استغلت الموقف لتغيير معادلة التعامل مع ملف ماء النيل، أما إسرائيل من جانبها فقد وجدت من ناحية أملا أن يؤدي «الربيع» إلى الانصراف عن القضية الفلسطينية إلى محاولة حل المشكلات الداخلية للدول العربية، ومن ناحية أخرى توجست عندما وجدت تصاعد نفوذ الإخوان المسلمين والراديكاليين العرب الجدد. إيران من ناحيتها حاولت أن تجعل من «الربيع العربي» امتدادا لثورتها الإسلامية، وعندما تغيرت الصورة بسقوط الإخوان في مصر، وامتداد «داعش» في سيناء والمشرق العربي فإن طهران عمدت إلى مدّ نفوذها عبر الطوائف الشيعية في العراق، و«حزب الله» في لبنان، والحوثيين في اليمن. وأكثر من ذلك فإنها سعت إلى إعادة بناء علاقاتها مع الولايات المتحدة والغرب من خلال التوصل إلى اتفاق تحافظ فيه على قدراتها النووية، حتى ولو لم تتمكن من الحصول على السلاح النووي. تركيا هي الأخرى وجدت في «الربيع» فرصة لاختراق الإقليم العربي من الشرق الأوسط، من خلال علاقاتها مع جماعة الإخوان المسلمين في مصر وسوريا، ومع سقوط الأولى في مصر، فإنها فقدت مجالا كانت تود التمدد فيه، أما في سوريا الأقرب جغرافيا والأهم استراتيجيا فلا تزال المحاولة فيها مستمرة.
وسادسها، أن إدارة التحالفات العربية ـ العربية المواجهة لهذه التهديدات لم تصل بعد إلى المستوى الذي يمكنها من التعامل مع الأمن الإقليمي العربي بالكفاءة المطلوبة. وفي هذا يوجد كلام كثير!