فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

لننتظر مذكرات أبي شقرا

حتى قبل أن نقرأ سيرة شوقي أبي شقرا، التي ستصدر بعد أيام قليلة في كتاب ضخم، نستطيع أن نقول إنها ستكون حدثًا ثقافيًا بامتياز. فهذا الرجل، الذي هو أحد عرّابي قصيدة النثر، ومن أوائل المبشرين بها، بالشكل الذي فهمه، وهو الأقرب لجوهرها ومعناها في رأينا، يختزن نصف قرن محتدمًا من الحيرة، والألم، والبحث، واللا يقين في الحياة والشعر معًا، لكن بشجاعة نادرة، وغالبًا هناك... في الوحدة التي تكره الضجيج، وخلف ستائر مسدلة في هذه المطبوعة أو تلك، أو في غرفة بيت ضائع في قرية ريفية لا يعرفها أحد. لكن الصوت كان يصل دائمًا. كانت تجربة كتابة قصيدة النثر والتنظير لها في ذلك الزمن المبكر أوائل الستينات، أقرب لضربة نرد طائشة في طاولة ليست مستقيمة. فلم يكد السياب ورفقاؤه يصدقون أنهم نجحوا في ثورتهم الكبرى عام 1948 في فك أسر الشعر العربي من عموده الخليلي المقدس، الذي حجره أكثر من ألف سنة، وأن يكرسوا شكلاً شعريًا غريبًا تمامًا على العرب، حتى أطلق شوقي أبي شقرا ورفاقه ثورتهم الكبرى الثانية قبل أن يهضم العرب تمامًا الثورة الأولى. كان هذا كثيرًا. انقلابان كبيران في الشعر العربي في فترة عقد تقريبًا. انقلاب «حديث» على انقلاب حديث. لم تكن مغامرة خاسرة. بعد سنوات قليلة من ثورة السياب، اختفت تقريبًا قصيدة العمود. وبعد الثورة الثانية، اختفت تقريبًا قصيدة التفعيلة، وبات الذين لا يزالون يكتبون بها يوسمون بأنهم متخلفون!
لم تصدر السيرة الذاتية لشوقي أبي شقرا بعد، لكن ما تسرب منها، وما يقوله في الحوار المنشور معه في هذه الصفحة، يجعلنا نتوقع الكثير لضخامة التجربة الثقافية التي يحملها الرجل، وما يتعلق بها، وما كان يدور داخلها. صحيح أن عشرات الكتب صدرت عن قصيدة النثر، وقرأنا عشرات الحوارات مع قسم من روادها ونقادها، لكن يبقى الحديث من قلب التجربة على لسان أحد روادها شيئًا مختلفًا سيثير بالتأكيد كثيرًا من السجالات، وردود الأفعال الإيجابية والسلبية، ويحرك ساكنًا في الحياة الثقافية المعاصرة فيما يخص هذه الثورة الشعرية الأضخم، بعد ثورة شعر التفعيلة، التي لا تزال لحد الآن غير واضحة المعالم، خصوصًا بعد أن ركب موجتها كثير من المدعين، مدفوعين بسهولتها الخادعة، بينما هي في الحقيقة من أصعب وأشق أنواع الكتابة الشعرية، كما قال تي. إس. إليوت مرة، وتتطلب شاعرًا كبيرًا لارتقاء سلمها.
ولكن هناك أمرًا لا يقل أهمية فيما يتعلق بمذكرات شوقي أبي شقرا. إنها سيرة حياتية أولاً، فتجربته الشعرية، و«الأجواء الشعرية المحتدمة آنذاك» كما يقول في الحوار المنشور معه هنا، ليست هي التي استغرقته وهو يكتب وإنما حياته أولاً. وهو شيء نادر في حياتنا الأدبية المعاصرة. لقد كتب عبد الوهاب البياتي من قبل سيرة أدبية وليست حياتية في كتابه «تجربتي الشعرية»، وكذلك فعل صلاح عبد الصبور في «حياتي في الشعر». أما جبرا إبراهيم جبرا فلم يكتب سوى فصول قليلة من حياته في «البئر الأولى» و«شارع الأميرات». وما عرفناه من حياة السياب وسيرته جاء على يد الدكتور إحسان عباس في كتابه الرائد والمهم «بدر شاكر السياب... دراسة في حياته وشعره» الصادر عام 1969.
وبالطبع، عرفنا عدة سير ذاتية في أدبنا المعاصر، وأشهرها «الأيام» لطه حسين، ونوعًا ما كتاب «أنا» لعباس محمود العقاد، و«سجن العمر» لتوفيق الحكيم، وغيرها، لكن يبقى ذلك قليلاً جدًا، كما أنها في رأينا ليست سيرًا ذاتية تمامًا. فالسيرة والسيرة الذاتية ليستا تسجيلاً لوقائع وأحداث حياتية فقط، وإنما قراءة نقدية أيضًا لحالة وموقف وعصر. ومن هنا أهمية كتب السيرة والسيرة الذاتية التي تكتب بهذا المعنى في العالم الذي سبقنا حضاريًا. وبالطبع، قراءة مثل هذه تحتاج إلى شجاعة كبيرة في طبيعة مجتمعات مثل مجتمعاتنا. ولهذا السبب ربما لم تتأسس بعد مثل هذه الكتابة كنوع أدبي مستقل بحد ذاته. والأمر لا يقتصر على كتابة السيرة الذاتية، بل أصبح في الغرب منذ عهد بعيد مختصون في كتابة سير الأدباء والفنانين. ولا يملك المرء سوى أن يشعر بالحسرة حين يختفي عشرات من كتابنا ومبدعينا دون أن يجرأوا، لهذا السبب أو ذاك، على الكتابة عن سيرهم أو يكتبها الآخرون بالشكل الذي كتب فيه، مثلاً، الشاعر بابلو نيرودا عن نفسه وعصره، أو بالشكل الذي كتب فيه بيتر دافسون عن جورج أرويل وعصره، وهي سيرة بلغت اثني عشر جزءًا، أو السيرة الذاتية لغونتر غراس، التي كشف فيها جوانب غير سارة من حياته، أساءت له كثيرًا، وكان يدرك ذلك.
لننتظر مذكرات أبي شقرا.