حنا صالح
صحافي وكاتب لبناني. رئيس تحرير جريدة «النداء» اليومية (1975 - 1985). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام راديو «صوت الشعب» (1986 - 1994). مؤسس ورئيس مجلس إدارة ومدير عام تلفزيون «الجديد» (1990 - 1994). مؤسس ومدير عام «دلتا برودكشن» لخدمات الأخبار والإنتاج المرئي (2006 - 2017). كاتب في «الشرق الأوسط».
TT

قراءة في موقف طهران بآستانة

بالوصول إلى مؤتمر آستانة، بدأت الخلافات الكامنة بين روسيا وإيران تظهر حول شتى العناوين، وكأن البلدين في مواجهة شبه مفتوحة، بدأت حول التركيبة العسكرية لوفد الفصائل الذي وقّع اتفاقية وقف النار، إلى كيفية الجلوس في قاعة الحوار، وصولاً إلى الأهمية التي تبديها موسكو للمشاركة المباشرة من جانب الإدارة الأميركية، وسوى ذلك.
تبدي طهران، مدعومة من رأس النظام السوري، مقاومة متعددة الأوجه، لثني موسكو عن المضي الدؤوب بنهج إنجاز تسوية سياسية. وكان لافتًا أن وكالة «مهر» للأنباء نظمت، عشية المؤتمر، حملة إعلامية رافضة كل ما تسعى له موسكو، فذهبت للقول إنه «على الروس عدم التضحية بالمناخ الإقليمي من أجل علاقاتهم الدولية».
والإشارة واضحة لتقارب ممكن بين موسكو وواشنطن، حيث تعتبر الإدارة الجديدة طهران عنصر عدم الاستقرار في المنطقة، إلى تعميم تهديدات لبرلمانيين نافذين في طهران بأنه «إذا تعرضت مصالح محور المقاومة للخطر، فعندها نترك طاولة المفاوضات». وواضح بالنسبة لإيران أن سعي موسكو لتسوية في سوريا، ولو بالحد الأدنى، سيعني بدء محاصرة مشروعها للهيمنة، وهذا المنحى سيفضي لوضع مصير رأس النظام السوري على طاولة البحث، مع إقرار الجميع بأن استمرار صلاحيته رهن عوامل خارجة عن إرادته والإرادة الإيرانية معًا.
لحظة انتصار حلب اعتبرتها موسكو فرصة لتحريك قطار التسوية، فضغطت ونجحت بالحد من ارتكابات ميليشيات الحرس الثوري ضد المقاتلين الخارجين، وأتاح انتشار الشرطة العسكرية الروسية بدء عودة الأهالي ولو بشكل محدود، ومنعت رأس النظام من إلقاء خطاب النصر من فوق أطلال الشهباء، ولم تكن إدلب المحطة الجديدة، بل كان اتفاق وقف النار، بمساعدة حاسمة من تركيا. وكان اعتراف الجيش السوري بالفصائل العسكرية التي لم تعد كلها مصنَّفَة إرهابية، وشكل ذلك رسالة روسية تسقط كل ترويج عن الحسم العسكري المستحيل، وبأنه لا قتال في سوريا إلى ما لا نهاية، بل إن مصالح روسيا تحدد أولوياتها في تكريس حضورها، وترسيخ هيمنتها لتوظيف كل ذلك بالإمساك بمنابع وممرات الطاقة، للاستحواذ على نفوذ استراتيجي في كل شرق المتوسط، لم يحققه سابقًا الاتحاد السوفياتي بكل جبروت قوته. وجلي أن الأهداف الروسية، بقطف ثمار جهدها العسكري، تتقاطع مع ضرورة تحقيق تسوية سياسية تكون موسكو التي جمعت أبرز المكونات السورية مرجعية مطلقة لها.
الأداء الإيراني في المباحثات السياسية وفي الميدان، وضعته موسكو تحت المجهر، وفي الوقت المناسب، ذكّر الوزير لافروف طهران بأنه عشية التدخل الروسي في سوريا، «كانت دمشق ستسقط خلال أسبوعين أو ثلاثة»، ووحده الدور الروسي كان العامل الحاسم في قلب المشهد، ما حال عمليًا دون تجرع الحرس الثوري، ومعه النظام السوري، كأس السم. موقف لافروف الذي يعكس في وجهه الآخر حجم الصعوبات التي تلفُّ الرؤية الروسية، يرتب كذلك مسؤولية عودة التدهور على طهران وفريقها.
هنا لا يخفى على المتابعين المحايدين أن إيران هي الجهة التي تتحمل، بالتساوي مع النظام السوري، كامل المسؤولية عن عسكرة الانتفاضة، وإشعال الفتيل الطائفي، وتغذية الإرهاب، وأعمال التغيير الديموغرافي، التي مزّقت النسيج السوري من الغوطة إلى حمص، لأن مشروع الهيمنة وتأبيد السيطرة الإيرانية يقوم على توسيع القاعدة الطائفية في سوريا، مما يُمكّن الطرف المهيمن من فرض أوتوقراطية دينية، هناك شكوك بقبولها حتى من جانب أكثرية الأقلية العلوية؛ فكيف بالأطياف الأخرى من الشعب السوري؟!
هذا المنحى لإيران، الذي كلفها المليارات وأعداد القتلى من الحرس الثوري، والميليشيات الأفغانية والعراقية واللبنانية التابعة لها، يفسر كثيرًا من الخطوات التي رمت لمنع خفض مستوى العنف، وعرقلة اتفاقية وقف النار، وصولاً لابتزاز الطرف الروسي بفرض العطش على دمشق، بعد ضرب مضخات نبع عين الفيجة، واستغلال ذلك لبدء معارك ظالمة في وادي بردى... هذه التطورات بالقرب من دمشق، التي أحد وجوهها مواصلة نهج الاقتلاع، تلت التطور المريب في تدمر. ففي ذروة النجاح المحقَّق في حلب، عاد «داعش» يحكم سيطرته سريعًا على تدمر، بعد تراجع غير مبرر للوحدات العسكرية والميليشيات، ومن ثم التقدم في دير الزور، بما بدا وكأن «داعش» أنجدت المشروع الإيراني - الأسدي.
لقاء آستانة هو الحدث المحوري بمعزل عن النتائج، ومن المهم جدًا التنبه إلى أن وقف النار سيفضي للبحث بالتسوية، التي، وفق الوضع الميداني، هي دون التضحيات الجسام للسوريين، لكن وقفَ المقتلة، يمنع الحكم الديكتاتوري والوصي عليه، من إعلان الانتصار (...) وكلما مُنِح الناس فرصة لالتقاط الأنفاس واستعادة بعض الأمن، تحوزُ الثورة الكامنة، الفرصة لتجديد نفسها، وبلورة أشكال جديدة من الحراك المجتمعي، الذي يُعوّل عليه لمحاصرة الإرهاب ورموزه، وبدء تقويض مشروع الهيمنة الإقليمية، الذي لم يتقدم إلاّ بفعل ارتهان نظام الأسد من جهة، ومن الأخرى التواطؤ الأميركي بإطلاق يد طهران ثمنًا للاتفاق النووي معها.
لن تسلم طهران بسهولة باحتمال تراجع مشروعها في سوريا أو تحديد حجم نفوذها، لأن لديها الكثير الذي تخشى عليه، وهذا يفسر الكثير من التحديات والعقبات التي على موسكو مسؤولية معالجتها، رغم أن أي تسوية تحمل بذور افتراق بين روسيا وإيران.