خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الفكاهة سلم الإصلاح

أربعة من رواد الإصلاح الاجتماعي في الأدب: نجيب محفوظ في الأدب العربي، أميل زولا في الأدب الفرنسي، تولستوي في الأدب الروسي، وشارلس دكنز في الأدب الإنجليزي. غير أن الأخير، شارلس دكنز، لم يحمل رواياته همومًا ثقيلة ونهايات أليمة. آثر أن يدغدغ القارئ ويستدرجه إلى نهايات سعيدة ينتصر فيها الحق على الباطل والبهجة على الألم، كما رأينا في طرحنا الوجيز في مقالتي الأخيرة «أنشودة الكريسماس».
نقرأه فنجد في معظم رواياته أوصافًا كاريكاتيرية مضحكة تدغدغ القارئ في وصفه لأحوال المجتمع وشخصيات الرواية. نلمس ذلك في روايته «دومبي وولده»:
«كان دومبي في الثامنة والأربعين من عمره تقريبًا. أما ولده فقد بلغ من السن ثماني وأربعين دقيقة تقريبًا. كان دومبي أصلع نوعًا ما، وأحمر الوجه نوعًا ما. ورغم كونه وسيمًا وجيد البنية، فإنه كان صارم المظهر ويميل إلى الفخفخة إلى حد مزعج، أما ولده فكان أصلع تمامًا وأحمر الوجه تمامًا. ورغم كونه طفلاً لطيفًا دون شك، فإنه كان مضغوط الهيئة ومرقط البشرة بوجه عام».
بهذه الكلمات عقد المقارنة بين المخلوقين؛ الأب والابن. ولكن هذا الطفل كان معتلَّ الصحة بما اضطر والده إلى إرساله إلى مصيف برايتن على البحر في جنوب إنجلترا، ليشفى في روضة السيدة ببشن. وهنا انطلق المؤلف في وصف هذه المؤسسات التربوية التي كانت بشعة ومتأخرة وبأمسّ الحاجة للإصلاح:
«كانت السيدة ببشن ذائعة الصيت امرأة عجوزًا، سيئة الطبع وسيئة الشكل على نحو عجيب. كانت لها قامة محدودبة ووجه منقط ومحفر كقطعة قديمة من الرخام، وأنف مقوس، وعينان رصاصيتان قاسيتان تبدوان وكأن حدّادًا صنعهما بالطرق على سندانه طرقًا قويًا، ولكن دون إتلافهما. مضت عليها أربعون سنة منذ أن لفظ زوجها أنفاسه الأخيرة في مناجم بيرو. ولكن من خلفها وراءه ظلت تلبس الثوب الأسود، ذلك اللون الكئيب، العميق، الميت، المجرد من أي بريق، بحيث إن الغاز نفسه يعجز عن إيقاد النار فيه بعد الظلام. كان وجودها وحده يكفي لإطفاء أي عدد من الشموع. دأب الناس على الإشارة إليها كمديرة عظيمة للأطفال. وكان سر تلك الإدارة العظيمة إعطاءهم أي شيء لا يحبونه، ومنعهم من أي شيء يحبونه. كانت امرأة عجوزًا وحقودًا إلى حد يحمل من يراها على الاعتقاد أن خطأ قد وقع في استعمال مضخات مناجم بيرو، بحيث قامت هذه المضخات بتفريغ الشفقة وكل الروح الإنسانية من شرايين السيدة ببشن، بدلاً من تفريغ الماء من المناجم».
الجدير بالملاحظة أيضًا أن هذا النقد الماكر الذي صاغه شارلس دكنز لروضة الأطفال هذه كان بصورة مستترة موجهًا للشركات البريطانية الاستعمارية التي كانت تنهب ثروات أميركا اللاتينية والعالم الثالث عمومًا أيضًا.