حمد الماجد
كاتب سعودي وهو عضو مؤسس لـ«الجمعية الوطنية لحقوق الإنسان السعودية». أستاذ التربية في «جامعة الإمام». عضو مجلس إدارة «مركز الملك عبد الله العالمي لحوار الأديان والثقافات». المدير العام السابق لـ«المركز الثقافي الإسلامي» في لندن. حاصل على الدكتوراه من جامعة «Hull» في بريطانيا. رئيس مجلس أمناء «مركز التراث الإسلامي البريطاني». رئيس تحرير سابق لمجلة «Islamic Quarterly» - لندن. سبق أن كتب في صحيفة «الوطن» السعودية، ومجلة «الثقافية» التي تصدر عن الملحقية الثقافية السعودية في لندن.
TT

قل لي من عينت أقل لك من أنت

عدد من الدول العربية أصحاب القضايا العادلة محاموها فاشلون. المحامون في القاموس الدبلوماسي هم وزراء الخارجية والسفراء والملحقون ثقافيًا وعسكريًا وإعلاميًا وكل الممثليات الدبلوماسية... هؤلاء ما لم يتم انتقاؤهم بعناية فائقة تتجاوز المحسوبية والمناطقية والإقليمية والتنفيع الشخصي و«تطييب الخواطر»، وإلا فإن أداء الدبلوماسية العربية سيظل متعثرًا تائهًا.
وكما أن جيوش الدول لا يُعرف مستواها ولا يُختبر أداؤها إلا إذا خاضت معارك حربية تُعطي المستوى الحقيقي للجيش ونقاط ضعفه وقوته، فكذلك المعارك الدبلوماسية التي لا تقل خطرًا أو أهمية عن المعارك الحربية، بل كل النزالات الحربية تسبقها نزالات دبلوماسية تحدد في الغالب مسار النزالات الحربية فوزًا أو خسارة، وأي دبلوماسي ناجح لا يمكن أن يحلق في سماء الدبلوماسية العالمية إلا بجناحين، إذا قُص أحدهما وقع؛ لغة سليمة ولغة عقلية منطقية مقنعة، يعززهما نشاط لا يكل، وديناميكية لا تمل، لها غايات واضحة واستراتيجية بعيدة المدى.
ولعل نجاح الخومينيين في ضرب الثورة السورية في حلب، والبدء عمليًا في تشكيل الهلال الشيعي، مثال صارخ للنجاح العسكري الذي سبقته معارك دبلوماسية محمومة اختار لها آيات قم فرقًا دبلوماسية ذات أداء مهني عال استطاعوا أن يقنعوا به الحكومات الغربية والرأي العام الغربي والعالمي بأنهم لا يقاومون ثورة شعبية ضد نظام دموي باطش بل مجموعة من المتشددين والإرهابيين، يقابله أداء دبلوماسي عربي باهت تسوده النزاعات وغياب الرؤية والاستراتيجية، عدا استثناءات متميزة، كما هي الحال مع ربان الدبلوماسية السعودية الماهر عادل الجبير الذي برز عالميًا بدبلوماسية عالية ومنطق رفيع وجدلية مقنعة بما يتناسب مع ثقل السعودية السياسي والإسلامي والاقتصادي والعسكري، وقل الشيء ذاته مع الأداء القوي لمندوب السعودية في الأمم المتحدة السفير عبد الله يحيى المعلمي الذي نازل اللوبي الإيراني ومندوب بشار الأسد بلغة مكينة وحجج مقنعة (كتبت مقالاً عن نجاحات عادل الجبير الدبلوماسية عنوانه «عادل الجبير النحيل الهصور»).
والنزالات الثقافية العالمية للدول هي الأخرى تحتاج إلى مؤهلين «مدججين» بالثقافة المتينة والدبلوماسية الراقية والمهنية العالية، ولعل أكبر معترك لصراع الثقافات، بزاوية الصراع الإيجابية، هي ساحات اليونيسكو في العاصمة الفرنسية التي لا تعتمد فقط على أهلية المادة التراثية لتسجيلها عالميًا، بل على مهنية المندوبين الدائمين للدول المختلفة، ولهذا رأينا دولاً مكتنزة بتراث عريق مادي ومعنوي يستحق أن يسجل رسميًا في اليونيسكو، لكنه مكث طي الغفلة والإهمال والنسيان فقط، لأن بعض المندوبين مهمل كسول أشغله عمل مكتبي ممل، وربما صرفته عن مهمته الحقيقية مصالح شخصية أو بروتوكولات ذات جدوى ضعيفة.
وإن كان ثمة تجربة ثقافية عربية في دهاليز اليونيسكو تستحق أن تكون نموذجًا للأداء المهني العالي الذي تزكيه الإنجازات العملية قبل الشهادات البشرية، فهو السفير الدكتور زياد الدريس، مندوب السعودية الدائم لدى اليونيسكو، الذي رغب منذ سنة أن يكون نهاية عام 2016 هو نهاية مهمته الثقافية اليونيسكية الناجحة التي امتدت لعقد من الزمن ليعتزل العمل في قمة عطائه.
عطاءات السفير الدريس وإنجازاته وأداؤه المهني هي التي جعلت رئيسة اليونيسكو ترجوه أن يمدد مهمته، كما أفادني بذلك صديق حضر حديثها في اليونيسكو. من هذه الإنجازات الإدريسية: إنشاء برنامج الأمير سلطان بن عبد العزيز لدعم وتفعيل اللغة العربية بدعم من الأمير سلطان، رحمه الله، وإنشاء برنامج الملك عبد الله بن عبد العزيز لتعزيز ثقافة الحوار والسلام بدعم من الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله، وتأسيس احتفالية اليوم العالمي للغة العربية التي شرقت وغربت، وتسجيل مواقع سعودية في لائحة التراث العالمي؛ منها «مدائن صالح» 2008، و«الدرعية القديمة» 2010، و«جدة التاريخية» 2014، و«الرسوم الصخرية في حائل» 2014. كما وضع السفير زياد الدريس مواقع سعودية في اللائحة التمهيدية لتسجيلها مستقبلاً، وقد بدأ العمل فعليًا على تجهيز موقع واحة الأحساء، ثم قرية رجال ألمع للتسجيل خلال العامين المقبلين بحول الله.
هذه الإنجازات هي ثمرة لمواهب شخصية وقدرات ذاتية وشبكة من العلاقات الواسعة وموهبة في التواصل والحوار والإقناع.