سعيد بنسعيد العلوي
كاتب واكاديمي مغربي
TT

الأحزاب السياسية.. اللائكية والإسلام

ما العلاقة الموجودة أو الممكنة التي يفترض العنوان وجودها بين الأطراف الثلاثة المذكورة؟ لنوضح، في سبيل الإجابة عن السؤال، أن السؤال يتعلق تحديدا بالحياة السياسية التي يصح نعتها بالحياة السياسية الطبيعية، أي تلك التي تفرضها طبيعة الوجود الاجتماعي للبشر في زمن معلوم وفي مكان معلوم وفي شروط تاريخية محددة. والجواب يستوجب أن نمهد له بتوطئة ضرورية نجتهد فيها، في اختصار وتركيز شديدين، توضيح دلالات الألفاظ الثلاثة (الحزب السياسي، الإسلام، اللائكية).
بعيدا عن لغة القواميس السياسية المعتادة نقول، إن الحزب السياسي هو التعبير المعنوي عن إرادة جماعات من الناس تربط بينهم وحدة في التصورات والأفكار السياسية، تبلورها عقيدة واضحة الأركان وتوحد بينهم الرغبة في الوصول إلى أهداف مشتركة خدمة للمثل الأعلى السياسي الذي يؤمنون به جميعا وسعيا لتحقيق البرنامج السياسي الشامل الذي يعتقدون أنه الأفضل بالنسبة للبلد الذي ينتمون إليه، وذلك في حقبة زمنية محددة. وإذن فالحزب السياسي يكون هو الطريق الشرعي من أجل الوصول إلى امتلاك السلطة التنفيذية بغية تنفيذ برنامج معلوم، كما أن الحزب السياسي يكون في مقابل ذلك الإطار الشرعي أيضا للتعبير عن رفض برنامج تعترض إليه، وبالتالي فالحزب يرتبط بالممارسة السياسية ويكون مدرسة مفتوحة لتكوين كفاءات سياسية قادرة على تحمل المسؤولية السياسية في البلد الذي تنتمي إليه مثلما أنها تكون قادرة على مراقبة برنامج الخصم السياسي والاعتراض عليه. لنقل، في عبارة جامعة، الحزب السياسي تعبير عن فكرة سياسية تفرغ في برنامج سياسي قابل للتطبيق ضمن الشروط التي تحددها القوانين القائمة في بلد من البلدان، ومدرسة للتكوين السياسي المستمر، ومجال مشروع لممارسة السياسي، وتعبير عن قيام الحياة السياسية الطبيعية في بلد من البلدان.
أما الإسلام فنقصد به، من جهة أولى، الدين الإسلامي من حيث إنه عقيدة تضبطها مجموعة من القواعد أساسها الإيمان والتصديق وتشريع تضبط مبادئه وكلياته أصول أدلة الأحكام (تلك التي تؤول بدورها إلى أصول الفقه). كما نقصد بالإسلام، من جهة ثانية، مجموعة المنتسبين إلى الملة الإسلامية بغض النظر عن اجتماعهم في مكان محدد معلوم أو وجودهم في مناطق متفرقة من العالم قد يكونون فيها أغلبية منسجمة، وقد يشكلون أقليات تنتسب إلى الوطن أو إلى الجهة من العالم التي يعيشون فوق ترابها. وإذن فإن النسبة تكون، أولا وأساسا، إلى الدين الإسلامي.
أما الشأن في اللائكية فهو في ثقافتنا العربية الإسلامية أقل وضوحا وأكثر مدعاة للغط وسوء الفهم. من الناحية المعجمية يفيد اللفظ بقيام الانفصال بين السلطتين الزمنية والروحية على النحو المعروف في الديانة المسيحية وفي التنظيم اللاهوتي، وهذا الأمر يقتضي بدوره شيئين اثنين؛ أولهما وجود الكنيسة (باعتبارها رابطة أو جامعا يضم مجموعة المنتسبين إلى الديانة المسيحية على أساس الانتساب إلى أحد المذاهب المسيحية العظمى التيارات الكاثوليكية، البروتستانتية، الأرثوذكسية، والإنجليكانية)، وثانيهما وجود سلطة روحية، تراتبية ومنظمة ترجع إلى السلطة الكنسية، هي سلطة الإكليروس أو السلطة الكهنوتية كما يقال في العبارة العربية الشائعة. والنتيجة هي وجود عالمين اثنين متمايزين تمايزا كليا هما العالم المدني (أو السلطة المدنية) والعالم الديني، واللائكية هي الحال التي جرى الانتهاء إليها عقب صراعات طويلة وثورات كبرى في تاريخ الغرب الأوروبي مما لا يتسع المجال للخوض فيه. يمكن القول، في نتيجة أولا، إن الحزب السياسي - نشأة وفلسفة - وليد طبيعي منطقي للنظام اللائكي الذي جرى الانتهاء إليه في التاريخ وهو ثمرة سيرورة نشأة العقد الاجتماعي وانبثاق الدولة الحديثة، وإذن فالعلاقة بين اللائكية والحزب السياسي علاقة طبيعية منطقية من جهة، وواضحة في المجتمع الإنساني الحديث من جهة أخرى.
متى تقرر هذا فإن سؤالا مزدوجا يطلع علينا: ما الصلة بين الإسلام واللائكية من جانب أول، وما الصلة بين الإسلام والحزب السياسي من جانب ثان؟
لنبدأ بمعالجة السؤال في شقه الثاني، لا للسهولة النسبية التي يبدو للوهلة الأولى أنه يتضمنها، وإنما لأن في الجواب عنه تمهيدا للجواب عن الشق الثاني وتضمينا للجواب في الآن ذاته.
الواقع أن نسبة الحزب السياسي إلى الإسلام (على النحو الذي أخذنا فيه بتعريف كل من الإسلام والحزب السياسي) نسبة يلفها الخطأ من كل صوب وحدب: قد يكفي أن نقول إن مجال السياسة هو الصراع من أجل امتلاك السلطة التنفيذية، فهو صراع يقوم بين برامج سياسية متعارضة، والبرنامج السياسي لا شأن له، في واقع الممارسة الفعلية بالارتقاء إلى مستوى الاعتقاد الديني وإنما هما مستويان منفصلان متمايزان، وليس من شرط الاختلاف في الرؤية والبرنامج السياسيين أن يكون اختلافا في الدين والعقيدة. إن الأمر لا يستدعي الاتفاق ولا يقتضي الاختلاف والجمع بينهما في صعيد واحد لا يخلو من المغالطة، أي من الخداع الذي تملك الآيديولوجيا أن تنفك منه (كما في عبارة علماء الكلام المسلمين). وليس أدل على ذلك من أن الحزب السياسي، من حيث هو كذلك، يقبل أن يجتمع فيه أشخاص توحد بينهم رؤية سياسية واحدة دون أن يملك الاختلاف في الاعتقاد الديني أن يفرق بينهم - وهذا من البديهيات التي تتعذر البرهنة على صحتها.
نقول، مرة أخرى، متى تقررت العلاقة بين الحزب السياسي والوجود الاجتماعي والسياسي للبشر على النحو الذي لمحنا إليه، فنحن نملك أن نقول إن العلاقة بين الإسلام (كما وقفنا عند تحديد دلالته أعلاه) واللائكية (من حيث هي تمايز بين عالمين يقتضي أحدهما الصراع على البرامج السياسية، وهذا هو مجال السياسة وغايتها الفعلية في الوجود السياسي الحديث، كما يحدد ذلك الفقه الدستوري المعاصر) لا تقبل أن تكون علاقة تناف لسببين اثنين على الأقل: أولهما أن الإسلام يخلو من الكنسية، ولا وجود لها فيه، بل ولا مكان فيه للكهنوت أو الإكليروس، والأصل في الدولة في الإسلام أنها «قضية مصلحية»، كما يذهب إلى ذلك المتنورون من علماء الإسلام والمرجع فيها الإفادة من تجارب الأمم والشعوب، والأمر الثاني أن أصل الاختلاف التاريخي في الفكر الغربي، وهو قيام الدولة الدينية، فهذه لا أصل لها في الإسلام على نحو ما اجتهدنا من هذا المنبر في القول في ذلك أكثر من مرة واحدة.