خالد القشطيني
صحافي وكاتب ومؤلّف عراقيّ
TT

الرجل وراء القفاز

كنت في مقالة سابقة قد أشرت إلى الزعيم الفرنسي كليمانصو وكيف لقبوه بالنمر. السبب طبعًا شراسته وعزيمته السياسية. ولكن ترتب على ذلك كثير من الحكايات والطرائف. كان كليمانصو مبتليًا بأكزيمة في كلتا يديه. اضطره ذلك للبس قفاز يخفي هذه العاهة الجلدية عن أنظار الناس. جلست قدامه على مأدبة عشاء امرأة تعجبت من ذلك فسألته: لماذا تلبس هذا القفاز حتى عندما تتناول طعامك؟ فأجابها قائلا: هذا لأخفي مخالب النمر يا سيدتي!
يظهر أنه كان يعتز بهذا اللقب. وقد كسبه بمعارضته الشديدة لمعاهدة الصلح مع ألمانيا. كان ذلك خلال الحرب السبعينية 1870 عندما اندحرت فرنسا أمام ألمانيا واستسلمت لها. وكان من نتائج ذلك أن تنازلت لها عن الولايتين المعروفتين بالألزاس واللورين. بيد أن كليمانصو عارض هذه الاتفاقية المهينة وأصر على عدم التنازل عن هاتين الولايتين ومواصلة الحرب حتى النهاية.
هكذا لقبوه بالنمر. وبقي النمر يرفض الاعتراف بهذا التنازل. وجاءت الحرب العظمى التي انتصر فيها الحلفاء على ألمانيا وكانت فرصته لاستعادة هاتين الولايتين غصبًا عن الألمان. ونحن طبعًا أعرف بالنمر من غيرنا، ففي عهده حررت وثيقة سايكس بيكو التي ابتلعت بها فرنسا بلاد الشام.
بيد أن كليمانصو لم يكن نمرًا فقط في السياسة والحرب، بل وكذلك في الإدارة والتعامل مع الناس. فعندما كان وزيرا للداخلية استقبل ذات يوم أحد حكام المحافظات الذي اشتهر بحمقه وتهالكه على قبض الرشاوى والاختلاسات. راح يعرض شكواه لزميله الوزير من كل هذه الاتهامات. توقف ليسأل الوزير «هل أنا حقًا أحمق كما يصفونني؟ لم يجبه كليمانصو على سؤاله فاستمر بالكلام وقال: وهل أنا بذلك المرتشي الذي يصفون أيضا؟ وعندها لم يستطع السيد الوزير غير أن يتمتم في وجهه قائلا: الجمع بين عدة وظائف ليس بالأمر المستحيل.
بيد أن نمر فرنسا تعرض للقتل في إحدى المناسبات. يروي ستيفن بونسال في كتابه «عمل لم يتم» عن معاهدة فرساي، أن رجلا أحمق اسمه كوتان حاول أن يقتل كليمانصو ولم ينجح. قبضوا عليه وأحالوه للمحاكمة. سأل القاضي كليمانصو عن رأيه في معاقبة هذا الرجل. فأجابه قائلا إن «كوتان يستحق بالتأكيد أقصى العقوبة. لنعط درسًا للآخرين في استعمال الأسلحة. لقد انتصرنا أروع انتصار في الحرب العظمى. ومع ذلك فها هو مواطن فرنسي يخطئ الهدف ست أو سبع مرات رغم قصر المسافة بينه وبين هدفه، بينه وبيني! يجب أن نعاقبه على سوء رمايته وسوء استعماله للسلاح.. أقترح للمحكمة أن تعاقبه بالسجن ثماني سنوات ليكون عبرة لمن اعتبر».
علق على ذلك المؤلف المذكور آنفا، ستيفن بونسال، فقال إن «أمة تنجب رجلاً يتمتع بمثل هذه البديهة وبمثل هذه السخرية الممزوجة بالسماحة الإنسانية، لهي أمة جديرة حقًا بمستقبلها».