طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

هذا الجمهور يستحق «التانيت الذهبي»

كان المخرج التونسي الكبير فريد بوغدير، الذي كُرم الجمعة الماضي في افتتاح مهرجان قرطاج عن إنجازه الفني، محقًا وصاحب رؤية ثاقبة عندما قرر إهداء جائزته للجمهور التونسي، في اليوبيل الذهبي للمهرجان (50 عامًا على انطلاقه)، فهو المهرجان الأقدم عربيا وأفريقيا؛ بدأت دورته الأولي عام 1966، وجاء بعده مهرجان القاهرة بعشرة أعوام 1976.
أشارك بالحضور في أغلب المهرجانات السينمائية العربية، وعيني ليست فقط على ما يجري على الشاشة، ولكني أتابع أيضا الشارع، لم أرَ حالة شغف مثل تلك التي عليها جمهور تونس الخضراء الحبيبة؛ جمهور صاحب مزاج فني راق، يناصر الفن الجميل على الشاشة الفضية بصفته لغةً سينمائية، ويدافع عن الجمال الإبداعي، يُسقط تماما الحدود الجغرافية، لا يصفق فقط للفيلم التونسي، ولكنه على استعداد لأن يصفق أكثر للفيلم المغربي أو المصري أو الكيني أو اللبناني، لو أعجبه أكثر.
الجمهور بالمئات يقف على باب الفندق الذي يقام فيه المهرجان، في شارع يحمل اسم وتمثال الحبيب بورقيبة؛ أول رئيس تونسي. كان الافتتاح مع كثير من الأمطار التي تنهال على الرؤوس، والقليل من المظلات الشمسية التي تحمي الرؤوس، ورغم ذلك، فإن الجمهور ظل يهتف ويرحب بكل الضيوف.. هذا الجمهور رأيته في إحدى الدورات التي حضرتها في منتصف التسعينات، وهو ينحاز ويناصر فيلمًا مغربيًا أعجبه لم يحصل وقتها على الجائزة الأولى «التانيت الذهبي»، أكثر مما صفق لفيلم تونسي حصل على «التانيت».
جمهور متذوق للفن السابع، كما أنه أيضًا في الوقت نفسه عاشق للطرب الأصيل، لقد علمت من بعض الأصدقاء أنه ليس فقط جمهور تونس العاصمة، ولكنه يأتي من كثير من المحافظات التونسية الأخرى، ولأنها «الخمسينية»، فلقد حرصوا على أن يقصدوا المهرجان من كل الأنحاء، ويتكبدوا مصاريف الإقامة في فنادق أو شقق صغيرة لكي يمارسوا بحرية حبهم وعشقهم للسينما.
المهرجان يتمتع بخصوصية؛ حيث إنه لم يفقد مطلقًا هويتيه العربية والأفريقية، وتلك لمحة صاحبته منذ البدء، ولم يتخلَّ عنها مطلقًا، وهو ما تجده في الأفلام والوجوه وكل المظاهر التي صاحبت المهرجان؛ التكريمات، ولجان التحكيم، والفعاليات، فلا تطغى ملامحه العربية على الأفريقية، ولا العكس أيضًا.. يحركه ميزان من ذهب يسرى في كل أوصاله، ليظل رافعًا شعار «العربي الأفريقي».
المهرجان لا يكتفي فقط بالأفلام، بقدر ما يحتفي بمن ساهموا بالفكر في انطلاقه، ويمنح من صنعوا أيامه حفاوة وبهاء يستحقونه بالطبع، وهو بالمناسبة لا يطلق على نفسه «مهرجان»، بل بكل تواضع اسمه الرسمي «أيام»، والميديا هي التي تمنحه توصيف مهرجان.
بالطبع لم يمض سوى أيام قلائل على الافتتاح، حتى نصل لشاطئ النهاية، ونقدم كشف حساب، إلا أن الافتتاح كان ينبغي أن يصبح أكثر إبهارًا وتنظيمًا. قدرنا أننا في أغلب الاحتفالات والمهرجانات العربية، تنطبق علينا حكمة نجيب محفوظ في رائعته بين القصرين: «آفة حارتنا النسيان»، وأجدها تبرق أمامي مباشرة: «آفة مهرجاناتنا سوء التنظيم»، ورغم ذلك، فإن علينا أن نطوي سريعًا صفحة الافتتاح ونتابع باقي الفعاليات، لأن المهرجان لديه كثير من الأفلام والتظاهرات، ولا يزال أمامنا الكثير حتى السبت المقبل؛ يوم الختام وتوزيع الجوائز، مع جمهور مشاعره ذهبية بعشقه للفن، وهو حقًا يستحق أن يمنحه فريد بو غدير وعن جدارة جائزته الذهبية.