عثمان ميرغني
كاتب وصحافيّ سوداني، نائب رئيس التحرير السابق لصحيفة «الشرق الأوسط». عمل في عدد من الصحف والمجلات العربية في لندن. متخصص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية ومهتم بقضايا الاقتصاد العالمي والمناخ والبيئة.
TT

الدور التركي المزدوج في سوريا والعراق

ليس صعبًا استنتاج أن ما يحدث في معركة الموصل، له انعكاساته أيضًا في معركة حلب، وفي حسابات الأطراف المحلية والإقليمية والدولية الضالعة في الأزمتين العراقية والسورية. فالأوضاع فيها تداخلات وتقاطعات كثيرة، تزيد الصورة غموضًا، وتكشف حجم التعقيدات في الأزمتين في ظل الشد والجذب الإقليمي والدولي الدائر حاليًا.
التصريحات والتحركات العسكرية التركية الأخيرة أوضحت بجلاء هذا التداخل في الحسابات. فبينما عززت تركيا من تحركاتها على جبهة حلب وشمال سوريا، أصر رئيسها رجب طيب إردوغان على أن يكون لبلاده دور في معركة تحرير الموصل، ودخل في تلاسن مع رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي الذي أعلن رفضه لأي مشاركة تركية. هذا الموقف أحرج الحكومة الأميركية التي تضع كثيرًا من الآمال على معركة تحرير الموصل من قبضة «داعش»، وتعتبرها خطوة مهمة في الطريق نحو المحطة التالية للقضاء على ما يسمى بـ«الدولة الإسلامية» في معقلها السوري في الرقة. لذا أرسلت واشنطن وزير الدفاع آشتون كارتر للتوسط بين أنقرة وبغداد، والتوصل إلى صيغة لاحتواء «مخاوف» الأتراك من أن يوسع الأكراد نفوذهم في المنطقة، أو أن تدخل ميليشيات الحشد الشعبي الشيعية الموصل، وتقوم بانتهاكات ضد السكان السنة.
إردوغان لم يكتفِ بالتصريحات، بل أرسل طائراته لشن غارات، قائلاً إنها كانت بطلب من قوات البيشمركة لدعمها في معاركها ضد مواقع «داعش»، وهو الأمر الذي نفاه أكراد العراق. في الوقت ذاته دفعت تركيا بتعزيزات إلى مناطق وجود قواتها في قاعدة بعشيقة في شمال العراق، بينما قال وزير خارجيتها مولود جاويش أوغلو، إن بلاده قد تشن عملية برية «لضمان مصالحها». إلا أن أكثر ما أثار التساؤلات هو كلام إردوغان عن أن لتركيا دورًا تاريخيًا يخولها التدخل، وإشارته إلى أن الموصل وكركوك «كانتا لنا». فهذا الكلام جاء بعد انتقاد الرئيس التركي أيضًا لمعاهدة لوزان التي رسمت حدود تركيا الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، وقوله إنها جعلت بلاده صغيرة جدًا، وإن التوقيع عليها لا يعني أن تركيا راضية عنها.
فعلى الرغم من أن إردوغان دافع عن تصريحاته بالقول إنه كان يقدم فقط «درسًا في التاريخ»، فإن هذا لم يمنع بعض الناس من القول إن تركيا ربما ترى أنه إذا كان سيعاد رسم الحدود في المنطقة ويحدث تقسيم في العراق أو سوريا، فإنها يجب أن تراعي مصالحها، وما تعتبره أيضًا واجبها في حماية الأقليات التركية في الخارج.
بغض النظر عن مغزى هذا الكلام أو مدى جديته، فالواضح أن تركيا تتحرك إزاء تطورات الموصل وحلب مدفوعة بجملة من الأهداف؛ أولاً، تريد الحد من نفوذ الأكراد وترى أنهم حققوا مكاسب كبيرة من الحرب على «داعش» والدعم الذي تلقوه من الغرب، وأنقرة كانت على الدوام متخوفة من حلم قيام دولة كردية، لا سيما أنه يوجد في أرضها أكبر عدد من الأكراد في المنطقة. وفي هذا الإطار فإن تحركات أنقرة في معارك العراق وسوريا تبقى موجهة بالأساس لمنع تمدد الأكراد، وكذلك لضرب قواعد حزب العمال الكردستاني التركي الذي تصنفه أنقرة منظمة إرهابية وتريد تحجيمه وكسر شوكته عسكريًا.
ثانيًا، ترى أنقرة أن إيران تعزز نفوذها في العراق وسوريا، وتشارك بشكل مباشر في الحرب الدائرة فيهما، وهو أمر مقلق لها بسبب التنافس الكامن بين البلدين. وثالثًا، تشعر تركيا بقلق أمني نتيجة تدفق اللاجئين على أراضيها، إضافة إلى مخاوفها من العمليات الإرهابية سواء من «داعش» أو من حزب العمال الكردستاني.
هناك أمر أخير، وهو أن تركيا إردوغان ترى أنه في ظل التنافس الإقليمي واشتعال الطائفية في المنطقة، فإن لديها دورًا تلعبه بوصفها بلدًا سنيًا كبيرًا، وخصوصًا إزاء أزمتي سوريا والعراق.
هذه الحسابات التركية وضعت أنقرة في دائرة الاحتكاك مع روسيا وأميركا في وقت عادت فيه أجواء الحرب الباردة بين القطبين الدوليين، واحتدمت المنافسة بينهما. ففي موضوع الأكراد هناك شد وجذب بين تركيا وحليفها الأميركي، إذ بينما تتحرك أنقرة لمنع تعزيز الأكراد لقوتهم ونفوذهم، وخصوصًا في المناطق المتاخمة لحدودها، فإن واشنطن تعتبرهم حليفًا أساسيًا في استراتيجيتها لمحاربة «داعش» وتمدهم بالسلاح والتدريب. هذا الأمر أدى أحيانًا إلى «اشتباك» كلامي، وخصوصًا عندما كانت تركيا تهاجم مواقع الأكراد، بدلاً من مهاجمة مواقع «داعش».
أنقرة وجدت نفسها أيضًا في مواجهة مع روسيا وصلت إلى حد الاشتباك الجوي في شمال سوريا. وعلى الرغم من أن إردوغان سعى إلى مصالحة موسكو لاحقًا لتوجيه رسالة إلى واشنطن، فإن مصالحه وأهدافه تبقى متضاربة بشدة مع الحسابات الروسية.
هذه التداخلات كلها تزيد أزمتي العراق وسوريا تعقيدًا، وتجعل الأشهر القليلة المقبلة مرشحة لتطورات كبيرة، وخصوصًا في ظل ما يحدث في الموصل، أو في حلب التي يتوقع أن تشتد معاركها، وتتضارب مع المصالح التركية.