بكر عويضة
صحافي فلسطيني بدأ احتراف الصحافة في ليبيا عام 1968 حيث عمل في صحيفة «الحقيقة» في بنغازي، ثم «البلاغ» و«الجهاد» في طرابلس. واكب صدور الصحافة العربية في بريطانيا منذ 1978 فعمل في صحيفة «العرب»، ثم مجلة «التضامن»، وبعدها جريدة العرب الدولية «الشرق الأوسط»، كما عمل مستشاراً لصحيفة «إيلاف» الإلكترونية.
TT

اذهب بعيدًا.. لكن إلى أين؟

ذهبت قناة التلفزيون البريطاني الرابعة الأسبوع الماضي أبعد مما يحتمل المزاج العام، فأثار برنامج لها زوبعة جدل، ربما يمضي وقت قبل أن تبتلعها رياح زوابع، أو عواصف، أهم منها. يجدر هنا التوضيح، لغير العارف، أن «القناة 4» عُرفت بجرأة تناول مواضيع مثيرة للجدل فيما تعرض لجمهورها عبر برامجها الإخبارية والتوثيقية ذات الطابع الاستقصائي، مثل Dispatches أو تلك التي تقتحم المسكوت عنه من باب الخجل، فإذا بالكاميرا تدخل عيادات تجميل، مثلاً، لتنقل للناس كيف تعامل هذا الرجل أو تلك المرأة مع عيوب خلقية وُلِدا بها، ثم بتسهيل من القناة ذاتها، وجدا العون لتصويبها، كما شاهد وشاهدت، من استطاع تحمّل مشاهدة حلقات المسلسل الطبي «Embarrassing Bodies»، «أجسام مُحرِجة». ذلك كله، وما شابهه أو شابه أسلوب «القناة 4» لدى قنوات أي بلد، يمكن إدراجه ضمن جرأة اختيار محمودة، بمعنى أنها حتى إذا لم تنل الإعجاب بإجماع الناس، فإنها على الأرجح سوف تفيد شرائح من المجتمع يخشى أفرادها البوح بما يؤرقهم من مشكلات. ومعروف أن إبقاء هموم الشخص طي الكتمان، أو قل الحرص على إيداعها قاع بئر الأسرار، غالبًا ما يوصل المرء إلى أنواع شتى من المعاناة، ربما أقلها الاكتئاب، وأقصاها فقدان العقل.
لكن الجرأة تفقد سمة الشجاعة، أو الإقدام، عندما تأخذ شكل وقاحة تخدش الحياء. إذ ذاك، تصبح جرأة الفرد، أو المؤسسة، نوعًا من الاجتراء الجارح للذوق العام. وذلك هو على وجه التحديد ما أقدم عليه برنامج «Naked Attraction» بعرضه أجساد رجال ونساء عراة. في سياق تبريرها، زعمت «القناة 4» أنها تريد كسر أي حواجز قد تحول دون حصول إعجاب متبادل بين رجل وامرأة يفتش كل منهما عن النصف الآخر، بما في ذلك حاجز غموض ما خفي من الجسد. بديهي أن ذلك كلام يعجز عن إقناع كل ذي عقل، أو قل إنه قول يشي بضياع عقل من أجاز اجتراء كهذا اقتحم بيوت المشاهدين، وعرض أمام مختلف الأعمار مشاهد من غير الجائز عرضها للكبار أنفسهم، ناهيك بصغار السن. لذا، بدا طبيعيًا أن تعلو صيحات احتجاج واستنكار ضد البرنامج ملأت عددًا من صفحات الصحف، وضجت بها مواقع الإنترنت.
على مستوى شخصي، لستُ مع تقييد حرية الفرد بأي مجال، لكن السؤال الذي يظل ماثلاً أمامي هو: إلى أين؟ بـ«أين»، أقصد الهدف، وليس المكان. صحيح أنه يمكنني الذهاب بعيدًا كما أشاء، لكن الأصح أن أعرف ما الذي أريد الوصول إليه. وما يتردد في حوار المرء مع الذات، يمكن القياس عليه في التحاور مع غيرك من الناس. أستطيع القول لك: اذهب بعيدًا كما يحلو لك، ليس من تثريب عليك أن تحلّق عاليًا بآفاق الخيال ما استطعت إلى ذلك سبيلا، لكن إلى أين؟ إنْ لم تعرف مبتغاك قبل بلوغ محطتك، ما فائدة كل أسفارك؟
يمكن تطبيق ما سبق على أحوال كثيرة مرّت بقرون سادت ثم هلكت خلال قرون عدة. على سبيل المثال، في سياق أقرب زمنًا، خذ ما حصل قبل ستة وعشرين عامًا من تاريخ هذا اليوم عربيًا، عندما قرر صدام حسين، الرئيس العراقي آنذاك، أن يذهب بعيدًا في تخيّل حجم زعامته، وقدرات بلده، وبدل الرضا بحل خلافاته وديًا مع جيران يصفهم بالأشقاء، فاجأهم غازيًا دارهم. تفاصيل «أم الكوارث» باتت معروفة، بدءًا مما وصف بمصيدة أبريل غلاسبي، سفيرة أميركا في بغداد زمنذاك، إنما معروف كذلك أين صار عراق اليوم، أقصد ما بقي منه.
إذا سافر باحث ما يفتش بين أسفار زمن أبعد، سوف يلتقي إسحاق نيوتن، الذاهب بعيدًا في الخيال كي يكتشف قوانين الحركة والجاذبية، وسيقابل توماس إديسون، المسافر بعيدًا بآفاق الخيال لكي يهدي العالم مصباحه الكهربائي، وسيصادف في الطريق تشارلز داروين، الذي ذهب به خيال العلم بعيدًا حتى وصل إلى أصل الأنواع، لكن الذهاب أبعد من أولئك أجمعين سيقود إلى لقاء مع عالم أندلسي هو أبو القاسم عباس بن فرناس بن ورداس التاكرني، الحالم بأكثر من النبوغ في علوم الكيمياء والفلك والرياضيات، ونظم الشعر وأنغام الموسيقى، فذهب بعيدًا حتى المخاطرة بحياته كي يطير كما العصافير. كم هو جميل أن تحلم بالجمال، ولك أن تذهب بعيدًا في الخيال كما تشاء، المهم أن تعرف إلى أين تريد الوصول.