مؤيد رشيد
TT

الموصل بين الأمس واليوم وغد

مدينة الموصل التاريخية هي مركز محافظة نينوى في شمال العراق حيث يتجاوز عدد سكان المدينة لوحدها المليوني نسمة غالبيتهم العظمى من العرب العراقيين المسلمين السنه، وينحدرون من قبائل شمر والجبور والدليم وطيء والبقارة، ويوجد أيضا مسيحيون "وتعتبر المسيحية ثاني أكبر ديانة في العراق بعد الاسلام؛ وهي ديانة معترف بها حسب الدستور العراقي قبل الغزو، حيث يعترف باربع عشرة طائفة منهم ويسمح لهم بالتعبد وبناء دور عبادتهم الخاصة بكل منهم" وهم يتحدثون العربية كلغة أم ونسبة منهم تتحدث السريانية بمختلف لهجاتها وكذلك الأرمنية ، ويوجد في الموصل أيضا أكراد وتركمان والشبك والايزيديون وغيرهم ويعيشون فيما بينهم بسلام ومنذ أكثر من مائة عام ، وتبلغ مساحة نينوى 32308 كيلومترات مربعة، ويتحدث سكانها باللهجة المصلاوية والتي تميزهم وتمثل جزءا من هويتهم وهي شبيهة لحد ما باللهجات في شمال سوريا، بالاضافة الى اللغات واللهجات للطوائف الأخرى.
كانت الموصل ولا تزال مجتمعا محافظا متدينا وسطيا من دون غلو ولاتطرف ، وقد استوطن البشر تلك الأرض منذ عام 6000 قبل الميلاد في السهل الممتد حول نهر دجلة وتمتاز بخصوبة أراضيها، وجاء أول ذكر لمدينة نينوى في 1800 ق.م وبناها القائد الآشوري نينوس ، فتحها المسلمون عام 16 هجرية في عهد الخليفة عمر بن الخطاب بقيادة التابعي العربي "ربعي بن الأفكل" وكان أول حاكم لها بعد الفتح الاسلامي هو عتبة بن فرقد السلمي، وكانت تعرف حينها بالحصنين ، فهي كانت مركزا حضاريا وطريقا تجاريا مهما ومركزا مهما لتصدير الحرير عبر إيران وآسيا نظرا لموقعها المتميز، مما حدا بالمؤرخين والشعراء لإطلاق أسماء عديدة تغزلا بجمالها وجمال طبيعتها فسميت الموصل لأنها تصل بين طرق التجارة ، والحدباء لانحداب والتفاف مجرى نهر دجلة فيها ، وأم الربيعين والفيحاء لكثرة أزاهيرها حيث تنفرد من بين محافظات العراق بطول فصليها الربيع والخريف المعتدل حتى سميت بأم الربيعين ، والخضراء لاخضرار سطح تربتها وخصوبتها ، والبيضاء لأن مساكنها كانت تبنى بالرخام والجص الأبيض قديما وغيرها الكثير من الأسماء ، ويمر بها نهر دجلة بشكل متموج من الشمال الى الجنوب ويقسمها الى قسمين ، وفي الموصل يقع الجامع الأموي والذي يسمى الجامع العتيق ويعود لبدايات الفتح الاسلامي والجامع الكبير"النوري" والذي لم يبق منه سوى منارته الحدباء وبني عام 568 هجرية ومرقد النبي يونس وجرجس وجامع الخضر والكثير من مراقد الأئمة، وفيها كنائس وأديرة قديمة تعود لقرون مضت وكذلك وجود آثار آشور ونينوى ونمرود والحضر وهذه كلها مجتمعة تشكل عنصرا مهما للسياحة والذي تشتهر به الموصل؛ التي ظلت قائمة حتى غزاها التتار الجدد منذ عامين وهدموا أغلب معالمها التاريخية والأثرية . وقتلوا وسبوا وشردوا الآلاف من سكانها الآمنين.
عرفت الموصل كأحد مراكز انتاج وتصدير النفط ومنذ النصف الأول من القرن الماضي حيث اكتشف حقلا نفط عين زالة وبطمة وتوجد حقول نفطية أخرى وغير مستغلة في سهل الموصل. وكذلك ازدهرت وتوسعت الزراعة فيها بعد تطور مشاريع الري الحديثة وبناء سد الموصل "سد صدام" شمال المدينة عام 1984 وتعتبر أكبر منتج ومصدر للحبوب والبقوليات والخضر ، وطالما اشتهرت الموصل بنظافتها ورقيها وتنظيمها ويتميز سكانها بالحس الوطني العالي وعلى اختلاف مذاهبهم ومشاربهم دون تمييز، فكان أغلب شبابها يتطوعون في الجيش وكانوا معروفين بالانضباط والتفاني في خدمة البلاد والعلم وكان لجنودهم وضباطهم وقادتهم الدور البارز والوطني المؤثر في الحرب العراقية - الايرانية . كانت الموصل ولا تزال مجتمعا محافظا، فسكانها يحافظون على عاداتهم وتقاليدهم العربية الأصيلة والأخلاق والصفات الحميدة.
وتغيرت الحال في الموصل بعد الغزو عام 2003 وعانى أهلها من التهميش والاضطهاد حالهم حال كل المحافظات السنية في العراق ومن قبل الساسة الجدد وجيشهم وشرطتهم ممن كانوا لاينتسبون للمدينة وانما جلبوا اليها من المحافظات الجنوبية وممن يواليهم ليزيدوا من عذاب وهوان سكانها الآمنين، وعانوا الأمرين من خلال تقييد الحريات والفساد ونهب الثروات وعمليات القتل والتعذيب والاختطاف ، واحتسب الناس وصبروا على ضيمهم لتمر السنين، ولتدور دائرة الزمن لتصير المدينة الى غزو جديد حين احتلت مدينتهم وبلدهم الآمن من قبل ميليشيات "داعش" بعد أن هرب الجيش العراقي "الجديد" وقوات الشرطة والميليشيات التي "تحكمهم" بعد ان تركوا كل أسلحتهم الثقيلة والخفيفة ومعداتهم وحتى لباسهم العسكري غنيمة باردة جاهزة للغزاة الجدد، وتناقلت ذلك كل وسائل الاعلام، وعادت المدينة لتذوق المر والهوان وتعاني التدمير والخراب على يد ميليشيات "داعش" وليصبح أهلها كالمستجير من الرمضاء بالنار وليعاني مئات الآلاف من سكان الموصل والقرى المجاورة والتابعة لها مجددا من القتل والتشريد والسبي والتنكيل وحرق المنازل والجوامع والكنائس، فنهبت أموالهم وأملاكهم ولم يسلم من بطشهم حجر أو نبات أو حيوان وليعودوا ليحتسبوا ويصبروا على الضيم والقهر من جديد مرة أخرى. وتشكلت في الموصل ومنذ غزو العراق تشكيلات وطنية لمقاومة الاحتلال من الأهالي والعشائر، ولكنها لم تلق الدعم الكافي من الحكومة المركزية المرتهنة لصالح ايران أو الدعم من الاقليم أو العالم لتصبح فاعلة على الأرض وبقيت ضعيفة شأنها شأن مثيلاتها في مدن العراق الأخرى.
هذه قصة الموصل الحدباء في سطور بعد أن تشتت أهلها وتبعثر نسيجها الاجتماعي؛ الآلاف منهم قتلوا وآخرون يرزحون تحت احتلال بغيض، ومئات الآلاف مشردون بين الجبال أو المخيمات ومنهم من هاجر وتفرق في بلاد الغربة بشتى بقاع العالم. وأم الربيعين تنتظر الفرج والخلاص، وهاهم قادة العالم بقيادة الولايات المتحدة يجتمعون لإقرار خطة تحرير الموصل والقضاء على الارهاب، والملايين من المشردين وآخرين ممن هم تحت الاحتلال يتطلعون شاخصين بأبصارهم نحو الخلاص ولا يعلمون أي مستقبل مجهول بانتظارهم، وما ستحمله لهم في بطونها الأيام من بعد هذا الغوث المرتجى وحين يتحقق الخلاص الموعود.