طارق الشناوي
ناقد سينمائي، وكاتب صحافي، وأستاذ مادة النقد بكلية الإعلام في جامعة القاهرة. أصدر نحو 30 كتاباً في السينما والغناء، ورأس وشارك في لجان تحكيم العديد من المهرجانات السينمائية الدولية. حصل على العديد من التكريمات، وقدم أكثر من برنامج في الفضائيات.
TT

النحلة والعسل واللدغة!!

«عشت لا أعزف ألحاني بل أدافع عن قيثارتي» كلمة للكاتب المصري الراحل عبد الرحمن الخميسي، طلب من الورثة أن يضعوها على قبره، وهي في الحقيقة لها تنويعات كثيرة في عالمنا الشرقي، إذ إن السلطة والمثقف دائمًا في علاقة تتشابك فيها المصالح والأهداف، الرغبة والخوف، الفنان يريد طبعًا أن يعزف لحنه ويخرج فيلمه ويرسم لوحته، ولكن الدولة على الجانب الآخر لديها أيضًا حساباتها المعقدة، فهي تريده على طول الخط مؤيدًا لها هاتفًا باسمها، هناك من يصبح من الفنانين صوتًا للدولة، وفي العادة ينعم برضاها، وفي كثير من الأحيان يحتل المقدمة ويغدقون عليه الجوائز، بينما هناك من يقف خارج الخط، ولهذا يضيقون عليهم الخناق أو يصل الأمر أن يودعوه السجن.
المخرج الإيراني الكبير الذي غادرنا قبل نحو أسبوعين عباس كيروستامي اختار الطريق الثالث، فهو يتعامل مع السلطة كالنحلة «لا أريد عسلك وابعدي عني لدغتك» بينما تلميذه جعفر بناهي، وهو أحد عناوين السينما الإيرانية المضيئة، دخل في معارك مع السلطة في عهد أحمدي نجاد، وصار من الناحية القانونية محبوسًا داخل حدود بلده غير مسموح له بالسفر، كما أنه بحكم القضاء ممنوع من ممارسة المهنة 20 عامًا، وإن كان هذا لم يمنعه من الناحية العملية أن يخرج أفلامًا تشارك في مهرجانات كبرى، بل ويحصل قبل عامين على جائزة الدب الذهبي في «برلين» عن فيلمه «تاكسي»، وهناك مثلاً المخرج محسن مخلباف الذي اختار حلاً آخر وهو أن يهاجر هو وعائلته وأغلبهم يمارسون الإخراج السينمائي إلى باريس، ليقدم أفلامه المعارضة خارج الحدود، كيروستامي لا يستطيع أن يغادر وطنه، ولا يمكن أن يتنازل عن موقفه، وفي نفس الوقت لن ينافق السلطة، وهكذا مثلا كان في السنوات الأخيرة يخرج أفلامًا خارج الحدود «نسخة أصيلة» في إيطاليا، و«كمثل عاشق» في اليابان، ولكنك لو تأملت الفيلمين ستجد أنهما مقدمان طبقًا للقواعد الإيرانية التي لا تبيح في الشريط السينمائي العنف أو الجنس أو العري، فقط لأن البيئة في الفيلم الأول إيطاليا والثاني اليابان، فكان ينبغي ألا ترتدي النساء الحجاب، ولكنه يختار أفكاره وشخصياته بعيدًا عن أي احتمال لمشهد يتعارض مع القواعد الإيرانية السينمائية الصارمة، كما أنه في كل أحاديثه يحرص على ألا يورطه أحد في الهجوم على النظام.
وهو ما كرره بالمناسبة تلميذه المخرج الإيراني الشهير أصغر فرهادي، عندما قدم قبل ثلاثة أعوام فيلم «الماضي» الفرنسي، التزم فيه أيضًا بقواعد السينما الإيرانية.
الدولة تنظر دائمًا للفنان الذي يحقق قدر من العالمية خارج الحدود بنوع من الريبة، وهذا هو مثلاً ما كان يعاني منه المخرج المصري يوسف شاهين، الذي اصطدم بالرؤساء الثلاثة عبد الناصر والسادات ومبارك، وإن كان بالطبع لم يصل الأمر إلى السجن أو النفي.
عباس كيروسامي كان عالميًا بحق مثلما كان أيضًا محليًا بحق، وظل دائمًا هو الصوت المدافع عن الحرية، فلم يحدث أن تقاعس عن مناصرة زملائه الذين تم إبعادهم أو هاجروا أو حُكِم عليهم بالسجن بسبب أفلامهم، إلا أنه في الوقت نفسه كان حريصا على ألا يصطدم بعنف ويدفع الثمن غاليًا، اختار كيروستامي الذي يعده كثر، واحدًا من بين أهم عشرة مخرجين في العالم أن يقول كلمته ولا ينتظر شيئًا، فهو لا يريد عسل السلطة ولا يتحمل في الوقت نفسه لدغتها!