باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

ماذا بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟

بريطانيا بعد الاستفتاء الذي رجح كفة المطالبين بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي، لن تكون هي ذاتها المملكة المتحدة التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية على أنقاض الإمبراطورية، التي كانت الشمس لا تغيب عن أراضي مستعمراتها في العالم. ذلك أن الاستفتاء الذي رجح كفة دعاة الانفصال بفارق واحد ونصف في المائة، لم يشكل الظاهرة الخطيرة الوحيدة في تاريخ هذه الملكية الأنغلوسكسونية الديمقراطية، بل ترافق مع مطالب أجزاء أخرى منها بالاستقلال، أو الانفصال، أو البقاء في الاتحاد الأوروبي، ومع إشكالات دستورية واقتصادية فجرتها سلبية الاستفتاء.
لماذا أكد رئيس الحكومة البريطانية أنه سيغادر الحكم بعد شهرين، وليس إثر ظهور نتائج الاستفتاء المخالفة لقناعاته؟ ولماذا هذا الاستعجال في الانسحاب الذي طلبه وزراء خارجية الدول الأوروبية الكبرى من الحكومة البريطانية (أي حكومة؟ الحالية أم المقبلة؟)، وهل ستجرى انتخابات عامة في بريطانيا تنبثق عنها الحكومة التي ستنفذ الانسحاب، (أو تعود عنه وتجري استفتاء جديدًا، كما يطالب مليون معارض للانفصال؟
لقد أوقعت بريطانيا نفسها، ودول الاتحاد الأوروبي، بل والعالم، في مأزق لم تتضح معالمه، ولكن ثمة إجماع على أنه مأزق صعب بل وخطير.
لقد عارضت الأجيال البريطانية الطالعة ومقاطعات كبيرة من المملكة الانفصال، بينما صوتت أجيال ما فوق الستين معه. وكان هذا منتظرًا. فالأجيال القديمة لا تحب التغيير. بينما الأجيال الطالعة ترى في الفضاء الأوروبي مجالاً حيويًا اقتصاديًا مفتوحًا أمامها. ثم إن أوضاع «بريطانيا الأوروبية» الاقتصادية في السنوات الأخيرة لم تكن رديئة بل بالعكس، فاقتصادها هو الخامس أو السادس في العالم، وعملتها قوية، ولندن هي المركز المالي الأول في العالم. صحيح أن انتماء بريطانيا غير الكامل أو الشامل إلى الاتحاد الأوروبي يفرض عليها المساهمة في موازنة الاتحاد بعدة مليارات، يعتقد معارضو البقاء في الاتحاد أنها عبء على الخزينة. وصحيح أن الأزمات المالية التي مرت بها بعض دول الاتحاد - ولا سيما اليونان - هزت الاتحاد، وخصوصًا الدول الكبرى فيه ومنها بريطانيا. ولكن انتماء بريطانيا - وغيرها - إلى الاتحاد لم يكن مكلفًا فقط، بل كان مربحًا ومفيدًا ومنسجمًا مع التوازنات الدولية الجديدة، التي رفعت عدد الدول الكبرى عسكريًا وسياسيًا من ثلاث أو أربع إلى ثماني بل وعشر.
لقد رحب المحافظون واليمينيون في أوروبا وفي الولايات المتحدة برجحان كفة الانسحابيين ولا غرابة. فهؤلاء ينطلقون من نظرة قومية أو عنصرية إلى أوطانهم، وإلى الشعوب الأخرى التي ينعتونها بالغرباء، ويرفضون التعددية المجتمعية، والانسجام الثقافي والحضاري بين البشر. وكم هم مخطئون، فليست أوروبا وحدها هي التي اختارت الاتحاد، بل إن المجتمعات الدولية بأسرها باتت اليوم تتعاون وتتساند وتتلاقى لتلافي الأزمات، ولتدارك الحروب، ولمقاومة الأوبئة وإنقاذ البيئة. ثم إن العصر الذي بتنا نعيشه ونحيا فيه، هو عصر الإنترنت والهاتف الجوال والفضائيات أي عصر التواصل السريع بين البشر داخل الدول والمجتمعات وبين الشعوب.
هل سيؤثر الانسحاب البريطاني من الاتحاد في علاقات الدول العربية والإسلامية بأوروبا؟ سؤال لا بد من طرحه، بعد أن تصفى القضايا والمشكلات التي خلقها الانسحاب البريطاني للاتحاد. وهذا يستغرق بعض الوقت، إنما الأكيد هو أنه ليس من مصلحة الدول العربية والإسلامية وصول اليمين القومي المتطرف إلى الحكم في بعض دول الاتحاد، وفي الولايات المتحدة خصوصًا.