ضياء الدين سعيد بامخرمة
سفير جيبوتي لدى السعودية
TT

تعاظم الأهمية الاستراتيجية لجيبوتي إقليميًا ودوليًا

تتمتع جمهورية جيبوتي بموقع استراتيجي مهم عند المدخل الجنوبي لحوض البحر الأحمر، وتحديدا بإطلالتها المتميزة على مضيق باب المندب، الذي يمثل عنق الزجاجة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي، لأن أخدود البحر الأحمر ممر مائي يربط طرق العالم وقارات العالم الكبرى؛ حيث الأسواق العالمية، ذات الكثافة السكانية الهائلة والأيدي العاملة المنتجة كالصين واليابان وإندونيسيا والهند وغيرها، ومن خلال البحر الأحمر ينقل النفط من الخليج العربي باتجاه أوروبا والأميركيتين؛ حيث تزدهر هناك أيضا القوة الصناعية العالمية والاستهلاك العظيم للطاقة والإنتاج معا، فتبرز أهمية البحر الأحمر كممر عالمي تتوازى فيه قناة السويس كمدخل شمالي، وباب المندب كمدخل جنوبي بأهمية التحكم الاستراتيجي في مفاتيحه الجغرافية.
وعلى هذا الأساس استمدت جيبوتي الدولة الأفريقية العربية الإسلامية أهميتها الجيو استراتيجية بأن تكون على مرّ التاريخ أرض التبادل التجاري، وكذلك اللقاء الإنساني والتلاقح الثقافي بين شعوب منطقة جنوب حوض البحر الأحمر تحديدا، فأصبح لا يوجد بيت في جيبوتي إلا وله امتداد نسب أو قرابة بدول الجوار القريب المحيطة كإثيوبيا والصومال وإريتريا واليمن، وأصبحت بذلك جيبوتي جامعة لثقافات وعادات ولهجات وتقاليد هذه الشعوب؛ مما ميّزها بأن تمثل عن جدارة «ضمير القرن الأفريقي».
ومن هذا المنطلق الاستراتيجي للموقع الجيبوتي أصبحت اليوم محط أنظار العالم اقتصاديا وأمنيا وعسكريا، وبطبيعة الحال، سياسيا.
فالصين تبني في جيبوتي اليوم عدة موانئ استثمارية ومنشآت سياحية، وهي امتداد لما سبقتها شقيقة جيبوتي العربية؛ دولة الإمارات وتحديدا موانئ دبي بالانطلاق ببناء (ميناء دورالي للحاويات) و(ميناء دورالي النفطي العملاق) في جيبوتي.
فالصين المقبلة كقوة اقتصادية بارزة في العالم تهدف إلى إحياء «طريق الحرير»، ما كانت ستقدم على هذه الخطوة والاستثمار المهم، لو لم تكن جيبوتي ذات أهمية بموقعها الاستراتيجي واستقرارها الأمني والسياسي. وبناء عليه، فالصين حاضرة أيضا بوجود عسكري في جيبوتي تهدف من ورائه إلى حماية استثماراتها الكبيرة بإنشاء قاعدة عسكرية تدعم وجودها، وتحمي اقتصادياتها العالمية التي تمرّ من هذا الموقع الاستراتيجي نحو مختلف مناطق العالم.
جيبوتي صغيرة بمساحتها نسبيا 23200 كم2، وبتعداد سكاني قرابة مليون نسمة، ولكنها كبيرة بموقعها الاستراتيجي وبإنسانها الذي حافظ على وحدته الوطنية وأمنه واستقراره السياسي والاجتماعي برغم قلة الصادرات ومحدودية الإمكانيات. فسعى هذا الإنسان بقدر المستطاع إلى بناء تنمية متوازنة في الإنسان والاقتصاد على حدّ سواء، وتطوير أساليب الحياة وخلق منظومة متناغمة مع الحاجة الإقليمية والدولية لجيبوتي، فكانت القرارات الجريئة للرئيس الجيبوتي إسماعيل عمر جيله، الذي فتح الباب للاستثمار والاقتصاد الحر، إضافة إلى الوجود العسكري الدولي لحماية المصالح العالمية.
جيبوتي اليوم هي بوابة القارة الأفريقية من جهة الشرق ومقر دول مجموعة IGAD، وهو التجمع التنموي لشرق أفريقيا المكون من: إثيوبيا، والسودان، وجنوب السودان، والصومال، وكينيا، وجيبوتي، وأوغندا، ودولة إريتريا المجمدة عضويتها مؤخرا؛ بسبب مشكلاتها مع دول الجوار، كما أن جيبوتي أيضا بوابة لتجمع أكبر وأوسع، وهو مجموعة دول التبادل التجاري الحر لجنوب شرقي أفريقيا COMESA الذي يضمّ في عضويته 19 دولة تعداد سكانهم 450 مليون نسمة.
انتماء جيبوتي لهذه التجمعات الإقليمية يؤكد أهميتها كقنطرة تربط بين الجزيرة العربية والقارة الأفريقية من جهة الشرق، لأنها دولة عربية وإسلامية وذات دور أساسي أيضا في منظومة دول الاتحاد الأفريقي، وهذا الأمر هو الذي جعل رئيسها إسماعيل عمر جيله يكون أول قادة دول منطقة الشرق الأفريقي، الذين استقبلهم خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، لينقل علاقة البلدين التي كانت ممتازة ومتجانسة على مرّ تاريخها إلى مرحلة أكثر استراتيجية وعمقا من خلال توقيع اتفاقية تشاور سياسي واتفاقية أمنية واتفاقية عسكرية؛ ليضفي ذلك أيضا أهمية جديدة بمنطقة الشرق الأفريقي من قبل حكومة المملكة العربية السعودية أكبر وأهم دولة إقليمية؛ حيث تمثل منطقة القرن الأفريقي عمقا تاريخيا للجزيرة العربية عموما وللسعودية خصوصا منذ هجرة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
نتيجة لعدم وحدة الرؤية العربية المشتركة ولغياب النظرة الثاقبة في السنوات القليلة الماضية، حدثت اختراقات أمنية وسياسية من قبل دول إقليمية لبعض دول الشرق الأفريقي، بهدف الإضرار بمصالح منظومة الدول العربية، فكان لا بد حينها للتحالف العربي الذي أنشأته وقادته السعودية منذ عاصفة الحزم في اليمن، مراجعة السياسات العربية في العالم وفي هذه المنطقة خصوصا، فتجلى هنا الموقف الجيبوتي المتميز بالتحالف المبدئي مع السعودية بدعم وتأييد عاصفة الحزم، ودعم الحكومة الشرعية في اليمن والانضمام للتحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب، وبقطع العلاقات مع إيران عندما حدث الاعتداء على السفارة السعودية في طهران والقنصلية في مشهد، بالإضافة إلى جملة مواقف سياسية معلنة من قبل الحكومة الجيبوتية في إطار جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي ومنظمة الأمم المتحدة، وجميعها في صف الموقف العربي والإسلامي المؤيد للقيادة السعودية لأمتها، والمعترض على التجاوزات الإيرانية سياسيا وأمنيا وعسكريا في المنطقة العربية.
قدر الله لجيبوتي أن تكون في منطقة تعتبر بحرا متلاطما من المشكلات والصراعات؛ حيث كان استقلال جيبوتي مع اندلاع حرب الأوغادين بين الجارتين إثيوبيا والصومال في عام 1977، فلجأ إليها أعداد من اللاجئين، ثم استمرت جيبوتي باستقبال النازحين من الصراع الإثيوبي الإريتري قبل استقلال هذه الأخيرة، ثم تلتها أحداث الصومال وانهيار الدولة بعد سقوط حكم سياد بري في عام 1991، كما ظل لجوء اليمنيين مستمرا على مرّ أحداث الصراعات اليمنية المختلفة.
ورغم كل تلك الأحداث التي أرهقت كاهل جيبوتي، فإنها ظلت واحة أمن متجانسة مع جوارها تعيش مستمسكة برأسمالها الأهم، وهو الاستقرار والسلم والوحدة الوطنية الداخلية والتوازن السياسي في علاقاتها الخارجية سواء مع دول الجوار أو مختلف دول العالم؛ مما أعطاها اليوم هذا البعد المضاف سياسيا وأمنيا للأهمية الاستراتيجية للموقع الجغرافي.
لقد عُرف عن القوى الكبرى في العالم أنها لا تهتم بمنطقة أو بلد من دون أن يكون لها فيه مصالح، وهذا هو منطق السياسة والحياة، فالاهتمام العالمي اليوم بجيبوتي يأتي متزامنا مع تعاظم أهميتها الاستراتيجية إقليميا وعالميا.
ومنذ نحو 3 أشهر أعاد شعب جيبوتي انتخاب رئيسهم الحالي إسماعيل عمر جيله لدورة رابعة من بين 6 مرشحين متنافسين، في انتخابات مرت بأمن وسلام وطمأنينة. فكانت حالة اجتياز جيبوتي لكل عواصف المنطقة والعالم بسلام تأكيدا لأهمية الاستقرار والوحدة الوطنية، من أجل تنمية محلية مستثمرة تعاظم الأهمية الاستراتيجية الإقليمية والدولية.

* سفير جيبوتي
لدى السعودية