وليد أبي مرشد
صحافيّ وكاتب وخبير اقتصادي لبنانيّ
TT

بريطانيا.. وأبغض الحلال

مع انقضاء مساء اليوم 23 يونيو (حزيران) 2016، يكون الناخب البريطاني قد اضطر، بحكم اللعبة الديمقراطية، لاختيار التوجه الأنسب لبلاده في مطلع القرن الحادي والعشرين والتخلي، مكرها لا بطلا، عن الثنائية التي ميّزت بلاده عن باقي دول القارة الأوروبية.
أهدأ الديمقراطيات الأوروبية مرت باختبار مصيري، قد لا تقتصر تبعاته على بلدانها فحسب.
نادرا ما تخرج اللعبة الديمقراطية في بريطانيا عن وقارها.. ولكن المشاعر الانفعالية والاتهامات الشوفينية التي رافقت حملة الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي، جعلتها أقرب إلى مناسبة عالمثالثية منها إلى استفتاء حضاري.
ظاهرا، كان الخيار المطروح على البريطانيين محصورا باستمرار الالتزام بعضوية الاتحاد الأوروبي أو «الاستقلال» عنه. أما باطنا فإن الخيار البعيد الأجل للاستفتاء يتجاوز الموقف السياسي والاقتصادي الظرفي من الاتحاد الأوروبي إلى الدور الذي تلعبه بريطانيا تاريخيا، ولعبته لغاية اليوم، لكونها دولة أوروبية من جهة، وأطلسية من جهة أخرى.. بتنسيق لا يخلو من دبلوماسية مرنة.
عقدة «الجزيرة» لم تغب يوما عن خلفية الدبلوماسية البريطانية، وحافز تعويض هذه العقدة في مسيرة تحويل الجزيرة إلى دولة عظمى كان الدافع الرئيسي لبناء أسطول بحري ضخم ضمن «للجزيرة» إمبراطورية لم تكن الشمس تغيب عنها.
أما على الصعيد الأوروبي، ورغم أن بريطانيا لم تكن يوما -ولن تكون- «قلب أوروبا النابض»، فإن رابط الجزيرة الأنجلو - سكسوني بمستعمرتها السابقة، الولايات المتحدة، ساعدها في لعب دور حارس مرمى الديمقراطية في القارة الأوروبية. وإذا كانت الديمقراطيات الأوروبية مدينة، عسكريا، للولايات المتحدة في نفاذها سالمة من حربين عالميتين (1914- 1918 و1939- 1945)، فهي مدينة سياسيا لرابط بريطانيا بالأطلسي الذي جعل الولايات المتحدة تعتبر بريطانيا موقعا أوروبيا متقدما للنفوذ الأنجلو - سكسوني وحليفا تاريخيا لواشنطن.
بمنظور واقعي، تبدو «الجزيرة» ضرورة استراتيجية «للقارة» و«القارة، بدورها، حاجة اقتصادية للجزيرة». إلا أن طغيان موضوع الهجرة الأوروبية المتنامية إلى «الجزيرة» على أي بعد آخر في علاقة «الجزيرة» بـ«القارة» حرّف الاستفتاء على عضوية بريطانيا في الاتحاد الأوروبي عن هدفه الأساسي، بحيث غرق في حجج عنصرية مغلفة بشوفينية اقتصادية.
قد لا يختلف مواطنان أوروبيان على أن نظام الرعاية الاجتماعية البريطاني واحد من أرقى أنظمة الرعاية المطبقة في ديمقراطيات القرن الحادي والعشرين، وأنه دافع رئيسي في اختيار معظم المهاجرين الأوروبيين لبريطانيا بالذات كموطن ثان لهم. ولكن الانسحاب من عضوية الاتحاد الأوروبي، خلافا لما يتصور البعض من أنه يعيد إلى بريطانيا «سيادتها» من شأنه أن يلحق ضررا جسيما باقتصادها، وبالتالي بقدرة حكومتها على تمويل التكاليف المتصاعدة لنظام الرعاية الاجتماعية. على هذا الصعيد يبدو المطالبون بانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كمن يجدع أنفه نكاية بوجهه.. فحتى لو اقترع الناخب البريطاني بأكثرية ساحقة لصالح الانسحاب، فإن أقصى ما يمكن أن يحققه هو الانسحاب من الاتحاد الأوروبي وليس من أوروبا.
هذا لا يعني أن الاتحاد الأوروبي منتدى مثالي لا تحتاج آليته البيروقراطية إلى تحديث وإصلاح. ولو لم تتسارع الأحداث التي أدت إلى طرح الاستفتاء على عضوية الاتحاد بخياريه المحددين (إما البقاء أو الانسحاب) لكان من الأجدى لبريطانيا وأوروبا معًا طرح اقتراحات لاختصار بيروقراطية الاتحاد، وتحسين أدائه عوض المخاطرة بزعزعة كيان اتحادي أثبت، رغم كل شوائبه، أن حسناته ما زالت تفوق سيئاته.