د. سعود بن عبد الله العماري
كاتب سعودي
TT

الحصانة السياديّة وموقف السعودية القانوني منها

يُعدُّ مبدأ الحصانة السيادية للدولة أحد المبادئ الراسخة في القانون الدولي، وركيزة قانونية لتنظيم العلاقات بين الدول، يكفل للدولة حقّها في الاعتراض على قيام القضاء الأجنبي لدولة أخرى بنظر أية قضيّة تُرفع ضدّها خارج أراضيها.
وتطبيق هذا المبدأ واحترامه مرهونان بتصرفات وممارسات الدول تجاه بعضها بعضًا، من خلال سنِّ تشريعاتها وقوانينها الوطنيّة، وتنظيم ممارساتها القضائية، بالكيفيّة التي تحفظ لهذا المبدأ احترامه واستقلاله وثباته، وتضمن أداءه دوره الحضاري، في المجتمع الدولي، بما يتفق مع مبادئ الأمم المتحدة، التي تهدف إلى إنماء العلاقات الوديّة بين الأمم على أساس المساواة في الحقوق بين الشعوب.
وخلال الفترة القريبة، برزت أهمية الحديث عن موضوع الحصانة السياديّة للدولة بعد تصاعد حملة، يقودها أفراد من أصحاب المصالح الذاتية في الولايات المتحدة، تستهدفُ مقاضاة حكومة المملكة العربية السعودية عن وقائع وأحداثٍ ترتبط بالهجمات الإرهابية التي شهدتها الولايات المتحدة في الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) سنة 2001؛ إذ يزعم هؤلاء أن للحكومة السعودية علاقةً بهذه الهجمات، ويحاولون إقناع ذوي ضحايا هذا الهجوم الإرهابي بمطالبة الكونغرس الأميركي بتعديل قانون الحصانة السيادية للدول الأجنبية حتى يتمكنوا من مقاضاة الدول الأجنبية، بما فيها المملكة العربيّة السعوديّة، في المحاكم الأميركية.
وقد سبق لي أن تناولت هذا الموضوع وكتبت عنه، كما أنني تشرّفت بتمثيل حكومة المملكة في قضايا سيادية عدّة، انتهت لصالح المملكة.
وأودُّ أن أوضح أولاً، أنه بموجب قانون الحصانة السيادية للدول الأميركي، لا يجوز إخضاع دولةٍ ما ذات سيادة، بغير إرادتها، لقضاء دولة أخرى. فلا يجوز لدولة ذات سيادة أن تمنح لنفسها الحقَّ في الحكم، قضائيًا، على أفعال دولة أخرى، وفقًا لمقاييس قوانينها الوطنية، وأن تفرض عليها المثول أمام محاكمها، لما في ذلك من انتهاك جسيم لمبدأ السيادة، وإخلالٍ بمبدأ الاستقلال المعمول به بين الدول.
واستنادًا إلى هذا المفهوم، لا تقتصر الحصانة السياديّة على الدول فحسب، بل تنطبق أيضًا، على رؤساء وقادة الدول، وممثليها، ووكلائها، لأن المنطق يقول إن الدولة لا تُجري أيّة تصرفات إلا من خلال مسؤوليها وممثليها، فتصرفاتهم الرسمية هي تصرفات الدولة.
ووفقًا للأحكام التي وردت في قانون الحصانة الأميركي، يُحظر رفع أيّة دعاوى ضد حكومات الدول الأجنبية، نظرًا لما تتمتع به هذه الدول من سيادة تامة. ويُفهم من هذا، أن المحاكم الأميركية تمتنع، بموجب هذا القانون، عن النظر في أيّة دعاوى تُقام أمام محاكمها ضد أيّة دولة أجنبية ذات سيادة.
وعليه، فلا يحقُّ للقضاء الأميركي النظر في القضايا المرفوعة ضد المملكة العربية السعودية، أو ضد أحد مسؤوليها أو ممثليها، لأن المملكة دولة ذات سيادة واستقلال.
ويوجد كثير من السوابق القضائية، التي تؤكد ما ذكرته، خاصة فيما يتعلق بالمملكة العربيّة السعوديّة، فقد رُفعت ضدّ المملكة، خلال العقدين المنصرمين، كثير من القضايا أمام المحاكم الأميركية، بعد وقوع أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وزعم المدّعون أنَّ الحكومة السعودية، تُشرف على نشاطات وأعمال بعض الجمعيات التي تموّل وتساند الجماعات الإرهابية. ورغم تأكد المملكة من براءة ساحتها من مثل هذه التُهم المُجحفة، فإنها دفعت بعدم اختصاص المحاكم الأميركية بالنظر في قضايا تمسُّها لكونها دولةً أجنبيةً ذات سيادة، وبالفعل نجحت في الحصول على حكمٍ لصالحها في كل القضايا، مستندة إلى قانون حصانة الدول الأجنبية.
ومن هذه القضايا، قضية بورنيت ضدَّ البركة للاستثمار والتطوير، وقضية شركة التأمين الفيدرالية وآخرون ضد المملكة العربية السعودية، وكلتا القضيتين مرتبطتان بالهجمات الإرهابية في الحادي عشر من سبتمبر. وقد استند الجانب السعودي إلى قانون الحصانة السياديّة. وعلى أثر ذلك، رفضت المحاكم الأميركية هذه الدعاوى، استنادًا إلى القانون الأميركي المشار إليه.
يذكر أنه صدر حكمٌ من المحاكم الأميركية لصالح المملكة مؤخرًا يؤيّد هذا التوجّه، ويكشف لنا، بجلاءٍ، عن تمسّك القضاء الأميركي بقانون الحصانة السيادية، والحرص على تطبيقه، حيث أصدرت محكمة مقاطعة نيويورك الجنوبية، في 10 مارس (آذار) 2016، حكمًا يقضي بعدم مثول المملكة كمُدّعى عليه، في دعوى مقامة من أهالي ضحايا هجمات برج التجارة العالمي، لأنها دولةٌ ذات سيادة لا يجوز بأي حال من الأحوال مقاضاتها ومساءلتها أمام القضاء الأميركي.
ورغم أن بعض أصحاب المصالح الذاتية المشبوهة، الذين يقصدون تشويه سمعة المملكة والإضرار بمصالحها، بالتعاون مع الذين يُشجعونهم ويؤازرونهم وعدد من الإعلاميين الأميركيين، لتمكين عائلات ضحايا أحداث الحادي عشر من سبتمبر من مقاضاةِ حكومات الدول الأجنبية، ومن بينها الحكومة السعودية، إلا أنه من المتوقع، بل وشبه المؤكد، أن يرفض الكونغرس الأميركي، والحكومة الأميركية، الانسياق وراء هذا التوجه. ومن وجهة نظرٍ قانونيةٍ صرفةٍ؛ ينبغي على الكونغرس الأميركي عدم الموافقة على مثل هذه المطالب، من البداية، منعًا لإحراج الكونغرس والحكومة الأميركية جراء تبعات تعديل هذا القانون.
وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الرئيس الأميركي؛ باراك أوباما، رفض تلك الدعوات، وحذر من مغبّة التداعيات القانونيّة، على الولايات المتحدة وحكومتها ومؤسساتها، لمساءلة المملكة أو غيرها من الدول ذات السيادة أمام القضاء الأميركي. كما لوّح الرئيس أوباما باستخدامه حقّ النقض، الذي يُتيحه له القانون، ضد مشروع أي قانونٍ، ومن المؤكد أن الرئيس الأميركي لم يتبنّ هذا الموقف من فراغ، ولكن، لأنه رجل قانونٍ، يُدرك أن مثل هذا الإجراء سوف يفتح الأبواب، على مصاريعها، للتعامل بالمثل، وبالتالي لمقاضاة أميركا، كدولةٍ وحكومة، خارج أراضيها وأمام محاكم أجنبيةٍ، وهو أمرٌ من المؤكّد أنَّ الولايات المتحدة لا ترغب فيه ألبتّة..!

* كاتب سعودي ومحامٍ دوليّ