منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كان هناك إجماع واسع النطاق على دعم التكامل الاقتصادي العالمي باعتباره قوة دافعة للسلام والرخاء حول العالم، واعتبر ذلك الإجماع ركنًا ركينًا من النظام العالمي آنذاك. من الاتفاقيات التجارية الدولية إلى مشروع الاتحاد الأوروبي، ومن أعمال مؤسسات «بريتون وودز» إلى إزالة ضوابط رؤوس الأموال الموسعة، ومن التوسع الكبير في الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى الزيادات الهائلة في تدفق الناس عبر الحدود الدولية، كان التوجه العام واضحًا وجليًا. وتحول العالم إلى قرية صغيرة ومتصلة بشكل وثيق، مدفوعًا بالتقدم الاقتصادي المحلي، ومن خلال التقنيات، مثل الشحن بالحاويات والإنترنت، التي عززت من قيمة التكامل، ومن خلال التغيرات التشريعية داخل البلدان والاتفاقيات الدولية بين مختلف الدول.
كان برنامج التكامل الاقتصادي بمعناه الأوسع أكثر نجاحًا مما كان يمكن توقعه أو انتظاره. فلم تقع حرب واحدة بين القوى العظمى في العالم. ولقد ارتفعت معايير المعيشة العالمية بصورة أسرع من أي وقت مضى في تاريخ البشرية. وتزامن التقدم المادي مع التقدم السريع في محاربة الجوع.
ومع ذلك، فهناك ثورة بدأت تتضح معالمها في الغرب ضد التكامل الاقتصادي العالمي. فالمرشحون الأربعة الكبار لشغل منصب رئيس الولايات المتحدة الأميركية - هيلاري كلينتون، وبيرني ساندرز، ودونالد ترامب، وتيد كروز - يعارضون جميعهم مبدأ مبادرات التجارة الحرة خلال هذه الفترة: وهي الشراكة عبر المحيط الهادئ. ومقترحات ترامب بتشييد الجدار الحدودي مع المكسيك، وإلغاء الاتفاقيات التجارية المبرمة، واضطهاد المسلمين صارت أكثر شعبية منه نفسه. وتتلقى حركة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي مزيدًا من الزخم والتأييد وربما تنجح وتسود.
جوهر الثورة ضد التكامل الاقتصادي العالمي، رغم كل شيء، ليس الجهل. لكنه الشعور - غير المبرر بالكامل وبكل أسف - بأن المشروع يجري تنفيذه بواسطة النخبة ولصالح النخبة، مع القليل للغاية من الانتباه لمصالح المواطنين العاديين. فهم يرون أجندة العولمة وقد وضعتها كبريات الشركات التي تتلاعب بسهولة بالدولة تلو الأخرى. ويقرأون التسريبات الواردة في وثائق بنما، ويخلصون إلى أن العولمة تتيح قدرًا ضئيلاً من فرص التهرب من الضرائب واللوائح غير المتاحة للجميع. كما أنهم يرون هذا النوع من التفكك الذي يصاحب التكامل الاقتصادي العالمي في الوقت الذي تعاني فيه المجتمعات المحلية عندما ينتقل أرباب الأعمال الكبيرة للعمل لدى المنافسين الأجانب.
ماذا سوف يحدث في المستقبل؟ وما الذي ينبغي أن يحدث؟
يمكن للنخبة الاستمرار على المسار الحالي لمتابعة مشروعات التكامل والدفاع عن التكامل الاقتصادي القائم، على أمل كسب ما يكفي من دعم الناس بأن جهودهم لن ينالها الإحباط. وعلى أدلة حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية وحملة الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي، يمكن لمثل تلك الاستراتيجية أن تأخذ مجراها. ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى توقف في جهود التكامل الاقتصادي العالمي، وبذل الجهد للمحافظة على الموجود فعليا، في حين الاعتماد على التقنية والنمو في العالم النامي لدفع أي جهود أخرى للتكامل.
وهناك فكرة واعدة من دون شك: إن تعزيز التكامل الاقتصادي العالمي يمكن أن يكون مشروعًا تصاعديًا بدلاً من كونه مشروعًا تنازليًا. ويمكن تحويل التركيز من تعزيز التكامل إلى إدارة عواقب التكامل. وقد يعني ذلك التحول من نظام اتفاقيات التجارة الدولية إلى اتفاقيات التنسيق الدولية، حيث يمكن لقضايا ملحة مثل حقوق العمال وحماية البيئة أن تكون في مركز المفاوضات، بينما القضايا ذات الصلة بتمكين المنتجين الأجانب تأخذ منحى هامشيًا. كما يعني ذلك أيضا تكريس كثير من رأس المال السياسي إلى تريليونات الدولارات التي تفلت من رقابة الضرائب أو التهرب من لوائح التنظيم من خلال تدفقات رؤوس الأموال عبر مختلف الحدود بالقدر نفسه الذي نكرس به جهودنا الآن لصالح الاتفاقيات التجارية. وقد يعني ذلك في نهاية الأمر التركيز على التحديات التي تواجه الآباء من الطبقة المتوسطة في كل مكان الذين يتشككون، لكنهم يأملون في المستقبل بشدة، لأن تكون لأطفالهم حياة أفضل من التي عاشوها بأنفسهم.
* خدمة: «واشنطن بوست»
