نبيل عثمان الخويطر
كاتب ومحلل اقتصادي
TT

توزيع إدارة المنشآت المدنية على المحافظات يرفع الأداء الاقتصادي

عندما نقارن الأداء الاقتصادي لدول العالم، نجد أن هناك تطاردا إيجابيا بين نسبة نموها الاقتصادي ومدى توزيع المسؤولية عن الخدمات المدنية فيها جغرافيًا، فإذا نظرنا إلى أكثر الدول الغربية نموًا خلال العشرين سنة الأخيرة، وهي أميركا وألمانيا، نجد أن كلاهما دول فدرالية تتكون من ولايات شبه مستقلة القرار عن العاصمة بالنسبة للقرارات المتعلقة مثلا ببناء وإدارة المستشفيات والمدارس والطرق المحلية، وحتى الضرائب.
كذلك نجد أن أهم خطوة اتخذتها الصين الشعبية في التسعينات من القرن الماضي لإشعال أسرع وأوسع نمو اقتصادي في تاريخ الإنسانية هي إعطاء حكومات المحافظات المختلفة استقلالية شبه كاملة بالنسبة لتطوير البنية التحتية، وجلب الاستثمارات الدولية والمحلية إليها، بتخفيض الضرائب وتسهيل الإجراءات التجارية. إذن، خلاصة الحديث أن هناك علاقة مباشرة بين النمو الاقتصادي والإدارة المحلية للمنشآت المدنية، من بلديات ومستشفيات ومدارس وغيرها من الخدمات التي تؤثر على حياة الأفراد في المجتمع بطريقة مباشرة.
وإذا نظرنا إلى تركيبة الوزارات في المملكة العربية السعودية، سنجد أنها لم تتغير كثيرًا منذ إنشائها في الستينات من القرن الماضي، عندما كان مجموع سكان المملكة أقل من عدد سكان مدينة الرياض وحدها اليوم. وعلى الرغم من نمو عدد الموظفين في الوزارات المختلفة من عشرات الآلاف إلى الملايين، فإن المهام والمسؤوليات المسندة إلى الوزراء أنفسهم ازدادت سنة بعد سنة، حتى وصلت حدًا لا يمكن لأي إنسان، مهما كان ذكيًا أو عبقريًا إداريا، أن يؤديها على مستوى يرقى إلى تطلعات المجتمع السعودي.
وهذا الوضع لن يتغير بإجراء إصلاحات هيكلية في إدارات الوزارات المختلفة لأن أساس المشكلة هو صعوبة تقييم أداء آلاف المدارس والمستشفيات والبلديات في شتى أنحاء المملكة، ثم اتخاذ قرارات بتعيين مدراء جدد، أو إعادة تأهيلهم، وغيرها من القرارات التي تتطلب الوقوف المباشر على نتائج عمل هؤلاء الأفراد. وهذا الهدف مستحيل على وزير أو وكيل وزارة من مكتب في الرياض يبعد مئات أو آلاف الكيلومترات عن مدير مدرسة أو مستشفى أو رئيس بلدية في إحدى مدن أو قرى المملكة. وكما أسلفنا، فالمسألة ليست مسألة قدرات إدارية أو نزاهة واجتهاد في أداء العمل، فلو بقدرة قادر استبدلنا جميع الموظفين السعوديين في إحدى الوزارات، من الفرّاش إلى الوزير، بألمان أو يابانيين فلن يتغير شيء بالنسبة لأداء الوزارات لأن المشكلة لا تكمن بالأفراد، بل بطريقة توزيع المسؤوليات. لذلك علينا دراسة تجربة الأمم ذوات الاقتصادات الرائدة في العالم، مثل ألمانيا وأميركا والصين، التي كما أسلفنا جعلت المنشآت المدنية تحت إشراف إدارات محلية، بدلا من الترنح تحت بيروقراطية تبعد آلاف الكيلومترات عنها في العاصمة، ولنتعرف على سر نجاحها الاقتصادي، ثم نفكر جديًا بتغيير جذري للطريقة التي ندير بها منشآتنا المدنية، ونقيم أداءها.
وإذا اتخذ فعلاً قرار بنقل إدارة المنشآت المدنية من الوزارات في الرياض إلى عواصم المحافظات، ستكون نقلة تاريخية ونوعية في تحسين أداء جميع الخدمات الحكومية التي تمس المواطن مباشرة. وللتأكد من أن إدارات التعليم والصحة والبلديات في المحافظات تقوم بواجباتها نحو المواطنين بأعلى المعايير، ربما من الأفضل وضعها تحت إشراف مجالس المناطق أو البلديات التي انتخبت في السنة الماضية، بهذه الطريقة يصبح الممثلون للمواطنين هم المحاسبون بالدرجة الأولى عن أداء الأجهزة الحكومية الخدمية في كل منطقة، فإذا قصر مدير مستشفى أو مدرسة أو رئيس بلدية في عمله لا يحتج عليه المواطنين بالترافع إلى وزير منهك من ثقل المسؤوليات بالرياض، بل يذهبون إلى ممثليهم في مجلس المنطقة، أو المجلس البلدي المحلي، ليقدموا شكواهم مثلا بعزل المدير المقصر. أما بالنسبة لميزانيات الوزارات الخدمية، فأفضل طريقة للعدل بين المحافظات هو أن توزع ميزانيات الوزارات المختلفة على المحافظات حسب عدد سكان كل محافظة، وتصرف على بناء وصيانة المستشفيات والمدارس والمباني العامة، تحت إشراف مجالس المناطق، بهذه الطريقة يكون التخطيط محليا ومناسبا لاحتياجات المدن والقرى في كل محافظة، بدلا من أن يكون قرارا بيروقراطيا من الرياض، بعيدا عن الواقع اليومي للمواطن العادي. ولكي يصل مستوى الخدمات الحكومية إلى أعلى المستويات، لا بد من إعطاء مجلس المنطقة في كل محافظة صلاحية فرض الضرائب المحلية لأن الميزانيات التي ستصل كل محافظة حتمًا لن تفي بمتطلبات المواطنين، وبما أن قرارات فرض الضرائب المحلية ستنبع من مجلس محلي، وسيصرف دخلها محليًا، فالغالب أن المواطنين لن يشتكوا منها، وإن اشتكوا ما عليهم إلا انتخاب مجلس منطقة جديد يخفف أو يزيل الضرائب التي فرضها المجلس السابق. أما بالنسبة للوزارات الخدمية القائمة الآن في الرياض، فإن دورها يتغير من الإدارات المهيمنة على الخدمات المدنية في شتى أنحاء المملكة بشكل يومي، إلى هيئات مراقبة جودة أداء الإدارات المحلية في المحافظات، والتخطيط لمستقبل الخدمات المدنية على المدى البعيد.