فهد سليمان الشقيران
كاتب وباحث سعودي
TT

ذكرى بغداد.. أفول الدولة وانقراض المجتمع

تمرّ الأيام لنستعيد بذكراها الكوارث. ذكرى الهجوم الأميركي على العراق 2003 مرّت في بحر هذا الشهر، وسط صورٍ صادمة للتحوّل المهول للحال قبل الغزو وبعده، وأبرز دليل على ذلك الانهيار الشامل وفقدان كل ما يتعلق بمفهوم الدولة لصالح جمع من الكيانات المعزولة أو الدويلات، بينما تحدّث الرئيس الأميركي أوباما عن أخطائه في ليبيا، حيث تدخّل ولكنه لم يوجد أفقًا سياسيًا، وقبل أيام كشفت جريدة «الشرق الأوسط» عن اتصالاتٍ بين موظّفين في مطار بيروت وجماعة إرهابية.. هذه الدول بمجموعها تعبّر عن السقوط المدوّي لدولٍ عربية في براثن الحالة الميليشياوية التي تؤسس الدويلات المتجاورة المتناحرة، سمتها السلاح، والإغارة والقتل، وتقاسم التركات، وتأجيل أمد الأزمات، وإنكار قيمة الفرد، وتشويه معنى الإنسان.
والمجتمع الذي تديره الدويلة يتحوّل إلى جمعٍ من المأجورين المسامرين، وتعود الحالة الاجتماعية إلى حال «ما قبل الطبيعة»، إذ لا قانون يحاسب، ولا مؤسسات تنظّم، ولا تعاقدات تحترم.
تعبّر الدول الفاشلة تلك، التي سرّع بفشلها إما الغزو، أو الثورة، عن القلق العميق الذي يشعر به الباحث حول طبيعة العلاقة بين المجتمع والقانون، وهذا يذكّرنا بالدراسات الراصدة لتلك العلاقة في مراحل ما بعد الاستعمار، أضرب مثلاً بأعمال هائلة لنجيب بودربالة الذي ساهم مع أستاذه بول باسكون في إرساء اللبنات الأولى لسوسيولوجية القانون لمرحلة ما بعد الاستقلال بالمغرب، ويدور مشروعه حول علاقة القانون بالمجتمع، وعلاقة الأنظمة العقارية بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية، بالإضافة إلى القانون القروي، وحقوق الإنسان، والنظام الغابوي، وقد عمل مع أساتذةٍ كبار في فلك الدراسة الاجتماعية الفذّة في المغرب مثل عبد الله حمّودي (صاحب أطروحة الأضحية) ومحمد علاوي وعبد الله حرزني، بمشاركة عبد الكبير الخطيبي.
الدراسة المجتمعيّة لمجتمعات ما بعد الاستعمار، لم تعضد بما يماثلها لمرحلة ما بعد الحرب على العراق، أو لمرحلة ما بعد «الثورات». تلك الدراسات المغاربية بكل معنى الكلمة هي إسهامات جليلة، يمكن الاستفادة منها بنقطةٍ أساسية تطرّق إليها أستاذ الإنثروبولوجيا بجامعة بريستون عبد الله حمودي، الذي استنكر التفاسير ذات البعد «الحتمي» عبر استعادة حتمية التحليل النفسي، أو البنيوي، المتجاوبة مع الآفاق الثورية عبر حسم تفسير المجتمع من أجل إيجاد بديلٍ حاسمٍ أيضًا، ويأتي ضمن هذا حال «حتمية التحليل السياسي» المنتشرة حاليًا، التي تعبّر عن قطعية في فهم المجتمعات وتحوّلاتها، وإسراعٍ نظري لإيجاد البديل المسوَّغ تحليليًا تجاه هذا المجتمع أو ذاك.
كل أفولٍ للدولة يصحبه انهيار في شبكة العلاقات بين أفراد المجتمع، وبين المجتمع كله والقانون، وانعدام إمكان التعويل على إبرام أي تعاقدٍ مدني مزمع بين أي فردٍ وآخر، وبين أي مؤسسةٍ وأخرى، لتكون الحال الطبيعية الأولى، حالة ما قبل المجتمع، بكل وحشيتها وحيوانيتها وغابيتها هي الشرعة والحَكَم، ويعيدنا هذا إلى ربط هيغل في «مبادئ فلسفة الحق»، إذ يرى أن «المجتمع المدني، هو دولة الضرورة والفهم، فهو يتطابق مع لحظة الذاتية، في مجمل فلسفة الحق، وفيه يعتقد الأفراد أنهم يحققون حرياتهم الفردية والذاتية. إن الدولة الحقيقية التي أعضاؤها مواطنون واعون بأن إدارة وحدة الكل ترتفع فوق المجتمع المدني، ما دام أن الدولة هي واقع الإرادة الجوهرية، واقع تتلقاه في وعيها لذاتها الذي أصبح كليًّا، إنها العقل في ذاته ولذاته، وهذه الوحدة الجوهرية هي غاية خاصة ومطلقة وثابتة، تحصل الحرية منها على قيمتها العليا».
مجتمع الدولة الفاشلة أفراده دومًا في كل لحظةٍ في حالة حربٍ مستمرة، حتى لو لم يملك بعضهم السلاح، هناك شراهة للاقتسام، أنياب ومخالب مجهّزة للانقضاض، أحقاد مرعيّة تُحرس من قبل الدويلة الصغيرة ضد الدويلة الصغيرة الأخرى، ومهما كان حال المجتمع ثقافيًا أو مستوى تطوّره وإرثه المدني تاريخيًا، غير أن إمكان الحرب واحتمال القتل هو الأساس ساعة أفول الدولة، حدث هذا في حروبٍ أهليّة أوروبية، نستشهد بفيلسوفٍ أرّخ الحرب الأهليّة البريطانية «توماس هوبز»: «ما دام أن وضعية الإنسان في حالة الطبيعة هي (حالة حرب الكل ضد الكل)، وهي حالة يحتكم فيها كل واحدٍ إلى ما تمليه عليه ميوله وأهواؤه، ولأنه لا يوجد ما يمنعه من استعمال كل ما يراه كافيًا للحفاظ على حياته ضد الأعداء، ينجم على هذه الحالة أن لكل إنسان الحق في كل شيء، بل إنه يملك الحقّ على أجساد أناسٍ آخرين، ولهذا فإن استمرار الحق الطبيعي لكل إنسان على أي شيء، لا يمكن معه لأي واحدٍ مهما بلغ من القوة والحكمة، أن يعيش المدّة التي تسمح بها الطبيعة للبشر عادةً».
حال الحرب هذه، والفوضى، وتحكّم الأكثر وحشيةً ببقية المجتمع نراه في لبنان، وسوريا، وليبيا، وسواها من عشرات الدول الأخرى، إنه حال صعود الدويلة وأفول الدولة، حيث يسهل بقر البطون، وقطع الرؤوس، واستباحة الدماء، وإخلاء البيوت، وغزو المدن بالسيارات ومجنزرات الميليشيات، هنا تكون المجتمعات في حالةٍ تستعد معها إما للموت، أو للانقراض والتلاشي، تنقرض جغرافيًا وتاريخيًا ما لم يكن هناك مشروع لإنقاذ الأرض والناس من وباء الحرب الأهلية الممكنة أو القائمة. حتى السلام بين الطوائف أو القبائل أو الفصائل لا يعبّر عن تشكّل الدولة، فعلى سبيل المثال المرحلة اللبنانية كلها التي تلت اتفاق الطائف ليست إلا «هدنة» أعقبتها مناوشات وحروب، إنها هدنة مطوّلة لأن مفهوم الدولة لم يتشكّل هناك.
«وليم ييتس» الشاعر الإنجليزي، عاصر حربًا أهليّة بآيرلندا عام 1916، فوضى خلّفت المجازر، قتل فيها الكثير من أصدقائه، حينها كتَب: «لا شيء عدا الفوضى يروم العالم.. وهيبة البراءة غريقة في كل مكان».