رجينا يوسف
صحافية لبنانية
TT

لبنان بين الواقع والأحلام

جاء اليوم الأول من أبريل (نيسان) ، ليفجر الشارع اللبناني، بمناسبة نشر صحيفة «الشرق الأوسط» في كاريكاتير لها، صورة للعلم اللبناني كتب على جذع شجرة الأرز، رمز لبنان «دولة لبنان»، وفي أعلى الرسم كتبت «كذبة نيسان». فاشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي مثيرة غضب الكثيرين.
لا أنكر أنني كنت واحدة من الذين اعتبروا الرسم غير منصف بحق لبنان؛ ولكن وبعيدًا عن المشاعر الوطنية، لم أجده مجحفًا بحق الوضع الحالي الذي يمرّ به البلد، وهو وضع يشكو منه الجميع.
كما لا أنكر أنّ العصبية الوطنية غالبًا ما تسبق حكم العقل والمنطق، فيسيطر الغضب على المستاء من الحدث وتصدر عنه ردود فعل انفعالية. ولكنّي أعترف أن رد الفعل العام على ما جاء في الكاريكاتير كان مبالغًا فيه، خصوصًا أن الإعلام اللبناني كان منبرًا للكلمة الحرّة، ودفع كثيرون من خيرة صحافييه حياتهم ثمنًا لهذه الحرية.
حادثة الصحيفة الفرنسية: «شارلي إيبدو» ليست بعيدة. حينها رفعت معظم شعوب العالم يافطات كتب عليها «كلنا شارلي إيبدو». وكان اللبنانيون سبّاقين بنشر هذه العبارة في جميع وسائل التواصل الاجتماعي، تضامنًا مع حرية الرأي والتعبير، وتنديدًا بهمجية الهجوم على مكاتب الصحيفة الذي أسفر عن مقتل الكثير من موظفيها.
واليوم تطلّ علينا فضيحة الكشف عن شبكة اتجار كبرى بالبشر وتسهيل الدعارة في مدينة جونية اللبنانية، حيث احتجزت نحو 75 فتاة غالبيتهن سوريات، في سراديب فندقي «شي موريس» و«سيلفر»، بعدما تعرضن لأبشع أنواع التعذيب والاتجار والإذلال.
ألقت القوى الأمنية اللبنانية القبض على الكثير من المتورطين محرّرة المحتجزات، فيما أفلتت الرؤوس الكبرى من الحساب كالعادة في لبنان.. على الرغم من أن البحث جار عنها.
قد يتساءل القارئ: ما الرابط المشترك بين الرسم الكاريكاتيري الذي تناول وضعًا يعاني منه لبنان، والكشف عن شبكة الدعارة؟
يردّد اللبنانيون المثل القائل في انتقادهم للكثير من المسؤولين اللبنانيين: «ما جبتولنا إلّا البهدلة»، منتقدين فشل حكومتهم في الحؤول دون امتلاء شوارع لبنان بالنفايات، على الرغم من أنّها مسؤولية بسيطة في كل دول العالم، مشيرين أيضًا إلى خلافاتهم المزمنة على كراسي الحكم، وخصوصًا كرسي الرئاسة الأولى. تصرفات هؤلاء «المستكرسين» حوّلت دولة لبنان إلى «كذبة نيسان» بين الدول، فلا شجرة الأرز ولا العجز عن جمع النفايات كانا سبب هذا الوصف، بقدر ما كان فشلهم في إدارة شؤون لبنان.
هذه الهجمة صبّت في خانة الدفاع عن أصحاب الكراسي لا عن الدولة اللبنانية.
أمّا السكوت عن شبكة الدعارة التي يشتبه بتورط رؤوس نافذة بها إلى حد السيطرة على مداخل ومخارج الحدود البرية والجويّة، وعن استعبادهم ومتاجرتهم بفتيات لم يبلغن بعد سنّ الرشد، فهو الحدث الذي يستدعي استنكارًا عامًا من كل من يحترم إنسانيته.
في هذا الملف تحديدًا يكون للصرخة معنى؛ لأنّها تحاسب المسؤولين عن الفلتان الأخلاقي، خلافًا للتعليقات التي طالت موضوع «كذبة نيسان»، فردود الفعل على الرسم جاءت بمثابة سكوت عن دور النافذين المسؤولين عن مشكلات الدولة.. والحقيقة يعلمها اللبنانيون بأجمعهم.
ما يخل بسمعة الدولة في لبنان، ليس تقصيرها في واجباتها الإدارية بل تجاهلها التأثير الأخلاقي الكبير لتقاعسها عن واجباتها في حفظ كرامة الإنسان وحماية الفتيات المراهقات من الاستغلال التجاري البشع.
كم فتاة تحمل في قلبها الصغير أوجاعًا تهد الجبال، باتت تفضل الموت في حرب سوريا الأهلية باعتبارها أكثر رحمة من تحكم جزار بمصائرهن، علمًا بأنّه يتكلّم لغتهنّ ويحمل جنسيتهن. وكم طفلة فضلت الموت بقنبلةٍ أو هدير غارة فتتت جسدها، لأنّها ستكون حتمًا أقلّ قسوة وإجرامًا من بشري يستغل جسدها لجني المال الحرام.