روجر كوهين
كاتب, نيويورك تايمز
TT

أوروبا تُضرب في سويداء القلب

استراتيجية الرئيس أوباما البطيئة والثابتة في آن لهزيمة تنظيم داعش الإرهابي لا تصلح، فهي تحاول تقليص حجم الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم، ولكنها عاجزة وقاصرة حيال تقويض الجاذبية الهائلة للتنظيم المسلح، أو تعطيل آلته الدعائية الواسعة، أو الحيلولة دون إراقة دماء مزيد من الأوروبيين.
جاءت هجمات بروكسل الدموية التي أسفرت عن مصرع 30 مواطنًا داخل المطار الدولي في المدينة، إلى جانب خط مترو الأنفاق الرئيسي، المجاورين لمقر الاتحاد الأوروبي – حيث رمزية الحدث والمكان تكون في أبرز صورها – بعد أربعة أيام فقط من إلقاء القبض في العاصمة البلجيكية على صلاح عبد السلام. وهو الناجي الوحيد المتبقي من بين 10 رجال يعتقد ضلوعهم المباشر في ارتكاب الهجمات الدموية، التي خلفت 130 قتيلاً وكثيرًا من الجرحى في باريس قبل أكثر قليلاً من أربعة أشهر في العام الماضي.
أعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عن الهجمات. وتحمل مذبحة بروكسل بصمات التنظيم المتوحش الواضحة؛ فالهجوم، على ما يبدو، من الهجمات الانتقامية، التي نفذها أعضاء من خلية بلجيكية كبيرة، وقد تلقى كثير منهم التدريب في سوريا، وكلهم يعيشون في الدولة الأوروبية الصغيرة، التي فتحت أبوابها وسمحت بتسلل الإرهابيين بين مختلف أحيائها.
وكانت الرسالة جد واضحة: «لا يزال بإمكاننا توجيه الضربات إليكم وقتما نشاء». ولم تفعل الحكومات الغربية، منذ هجمات باريس السابقة، أي شيء لتغيير هذه الحقيقة حتى الآن.
وتعد بلجيكا من كبرى الدول الأوروبية المساهمة بالمتطرفين والمتشددين، من حيث نصيب الفرد، في القتال الدائر في سوريا، الذين يعودون أدراجهم إلى بلادهم لإشاعة الفوضى والدمار. كما أن بلجيكا من الدول الضعيفة من الناحية المؤسساتية وتعاني ضعفًا بيّنًا في أجهزة الأمن والاستخبارات، وعجزًا في التنسيق الأمني اللازم لمكافحة الإرهاب والأعداء المتطورين.
يقول الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند: «لقد ضرب الإرهاب بلجيكا، ولكن أوروبا هي التي كانت مستهدفة، والجميع يدرك ذلك ويعرفه». أجل، يعرف الجميع ذلك ويؤكده.. من كاليفورنيا وحتى قلب أوروبا.
وسوريا، التي تنظر إليها إدارة الرئيس أوباما من زاوية أنها صراع عسير على الحل، ولكنه محدود الأفق، قد أثبتت للجميع قدرتها على احتضان خلايا الإرهاب العالمي الدموية. وتنطلق زخات الإرهاب المروعة من قلب مدينة الرقة، معقل التنظيم الإرهابي في سوريا، إلى جميع أنحاء العالم.
والأمر الخطير بشأن هذه المدينة، التي يسميها التنظيم الإرهابي «مقر الخلافة» الموهومة، لا يتعلق كثيرًا بعوائدها النفطية، أو معسكرات إعداد الإرهابيين، أو قربها من الغرب، أو سيطرتها على الملايين من الناس، ولكن تكمن خطورتها في التشديد المغناطيسي الواهم للقوة المتطرفة. لم تكن الولايات المتحدة وأوروبا لتتقبل وجودها في عام 2001، ولم يكونوا ليقبلوا بأن الملاذ الآمن للإرهابيين في مواقع ملاصقة جغرافيًا لحدود حلف شمال الأطلسي في تركيا، يستطيع أن يضرب إحدى المدن الأوروبية بمثل هذه القوة، كما فعلوا مرة أخرى منذ أيام. ولكن السنوات التي مرت منذ هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001، ومع ما ترتب عليها من دماء وأموال، كادت تندثر عن الذكرى بفعل الأيام.
كان الرئيس أوباما، منذ هجمات باريس السابقة، يصر على أن التحالف المضاد لتنظيم داعش، مع الدول الأوروبية وغيرها من حلفاء الولايات المتحدة، يقترب من إنجاز مهمته.. فلقد استعادت قوات التحالف المذكور أكثر من 20 في المائة من الأراضي التي يسيطر عليها التنظيم الإرهابي في العراق وسوريا. وقد أشار الرئيس الأميركي إلى أن تنفيذ مزيد من الإجراءات العسكرية العنيفة لسحق المتطرفين هناك – خصوصًا نشر قوات المشاة بالأساس – سوف يجر الولايات المتحدة إلى حرب جديدة في منطقة الشرق الأوسط، وسوف يزيد كذلك من جاذبية ودعاية التنظيم الإرهابي. ولقد كانت حجة الرئيس الأميركي تفيد بأنه: يسهل هزيمة تنظيم داعش عسكريًا، ولكن ماذا بعد ذلك؟
إنها سياسة مليئة بالمخاطر العالية للغاية؛ وهي عالية جدًا من وجهة نظري، فهي تتيح للتنظيم الإرهابي التباهي والمفاخرة بنشر شروره الخالصة داخل الرقة وخارجها. وتفرض مقاربة الرئيس أوباما إمكانية سحق التنظيم الإرهابي قبل أن يجري تقويض المجتمعات الأوروبية والأميركية. ومرة أخرى، صرح الرئيس الأميركي من العاصمة الكوبية هافانا يقول: «سوف نهزم أولئك الذين يهددون سلامة الناس وأمنهم في جميع أنحاء العالم». ولكن الرئيس لم يحدد متى يمكننا الانتصار على هذه القوى التي امتنع عن تحديد هوياتها، والوقت لا يزال يداهمنا.
يعد تأثير تنظيم داعش قويًا من الناحية النفسية والسياسية على حد سواء. وتحمل أوروبا والولايات المتحدة ندوب ذلك التأثير جلية وواضحة. وأوروبا الموحدة، أحد أهم وأكبر الإنجازات في القرن العشرين، باتت على شفا حفرة وشيكة وعميقة من الانقسام. وسوف يستغل الهجوم الأخير أفضل استغلال من جانب السياسيين اليمينيين المتطرفين المناوئين لأوروبا الموحدة أمثال مارين لوبان، زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسية؛ فسوف تزداد دعواتها لإغلاق الحدود والتخلي عن اتفاقية «شينغن» الأوروبية، التي تسمح بحرية الحركة بين أكثر من 10 دول أوروبية مجتمعة.. سوف يكون ذلك من أقوى التحديات التي تواجه الحريات الأوروبية المعهودة.
ومن خلال التشديد اليسير على شبح المزج بين الهجرة، والإسلام، والإرهاب، سوف يعزز الأمر كثيرًا من دعاوى أولئك المؤيدين لخروج بريطانيا من عضوية الاتحاد الأوروبي خلال استفتاء يونيو (حزيران) المقبل. إن الاتحاد الأوروبي يشهد تمزقًا فعليا نتيجة لتدفقات المهاجرين الهائلة من سوريا وغيرها من الأماكن، إلى جانب الأزمة الاقتصادية التي بدأت بوادرها تلوح في الأفق.
وفي الولايات المتحدة، يتلاعب زعماء الدهماء والغوغاء كذلك بلعبة إرهاب تنظيم داعش، وعلى رأسهم المرشح الرئاسي دونالد ترامب، مع دعواته إلى إيقاف هجرات المسلمين، وتبنيه التعذيب من أجل محاربة الإرهاب. ويشعر كثير من المواطنين الأميركيين بالخوف فعلاً، ويشعرون أن قوى غامضة وقاتمة ولا يمكن السيطرة عليها، باتت تعبث وتعيث فسادًا بحياتهم وسبل الأمن والسلامة فيها. وقد كان ترامب، بطبيعة الحال، سريعًا للغاية في استغلال فرصة الهجمات الأخيرة لتجديد التأكيد على تحذيراته العدوانية السابقة؛ حيث قال مؤخرا: «سوف يحدث ذلك الأمر في الولايات المتحدة أيضًا».
ولقد وقعت بالفعل حادثة من تنفيذ بعض المتعاطفين مع تنظيم داعش في سان برناردينو بولاية كاليفورنيا. والسؤال الملح والمطروح بصورة عاجلة عقب هجمات بروكسل، التي وقعت بعد فترة وجيزة من هجمات باريس، هو: لماذا السكوت عن الرقة، في حين لم يتم السكوت من قبل عن ملاذ تورا بورا لتنظيم القاعدة في أفغانستان؟ وليست هناك إجابات يسيرة عن هذا السؤال. ولكن اليوم، وعلى أدنى تقدير، فإن مقاربة الانتظار الغربية المملة والبغيضة حيال القتلة المتعصبين من «الخلافة المزعومة»، باتت أشبه بالاستسلام.
* خدمة «نيويورك تايمز»