علي إبراهيم
صحافي وكاتب مصري، ونائب رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

تهافت السياسة

كثيرًا ما يمر في الخاطر لماذا قدم عبد الناصر استقالته بعد هزيمة حرب 67. وأعلن أنه يتحمل المسؤولية، ولماذا لم يقدم صدام حسين استقالته حتى لو كانت شكلية، بعد مغامرة حرب الخليج الأولى، ولماذا تتمسك شخصيات مثل علي عبد الله صالح وبشار الأسد بالسلطة أو أهدابها، رغم أنهم حوّلوا بلادهم إلى أطلال.
سيجادل البعض بأن استقالة عبد الناصر شكلية، لأنه عاد عنها سريعًا بعد المظاهرات التي خرجت، وهو ليس مجالنا اليوم؛ فبصرف النظر عما حدث وحقيقته هناك اعتراف تلفزيوني بالمسؤولية، وأن هناك هزيمة كبرى لحقت بالنظام وبالبلد كله، وانعكست على مجمل المحيط الإقليمي.
شأننا في البحث اليوم، هو أنه لم يكن هناك مجال في ذلك الوقت للهروب من المسؤولية، بينما بعدها بجيلين أو ثلاثة من القادة الذين جلسوا على كرسي المسؤولية، أصبح هذا هو العادي وبمبررات تافهة، ولا تصمد في مدرسة أطفال.
ماذا حدث ولماذا تغيرت الطبائع بهذا الشكل ومعها أساليب السياسة كلها لنصبح في عصر تهافت السياسة في المنطقة التي يتصاعد منها دخان الحرائق في أماكن كثيرة، وشمل التهافت حتى ظاهرة التطرّف مع دخول تنظيم داعش على الخط بأساليب همجية ووحشية.
يسلط تقرير للمركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية في القاهرة الضوء على أخذ جوانب هذا التهافت في عرض لظاهرة تداعيات انتشار السوقية السياسية على التفاعلات الداخلية في الإقليم في ظل تزايد الاعتداءات الذاتية والاشتباكات والمشاجرات الجماعية بين المنتمين لنخب سياسية وانتشار التجاوزات اللفظية في الحوار السياسي بغرض الاغتيال المعنوي، وهو ما برز في ليبيا والجزائر وتونس والمغرب ومصر واليمن والكويت ولبنان والأردن والعراق وتركيا وإيران.
وفي الذهن طبعًا حادث الاعتداء الأخير بالحذاء على نائب في البرلمان المصري بسبب لقائه السفير الإسرائيلي، كما حدث اشتباك بالأيدي في فبراير (شباط) خلال مناقشات حول لائحة البرلمان. وطبعًا فإن ظاهرة استخدام الحذاء في مناسبات عامة بدأت بحكاية الصحافي العراقي مع بوش الابن والتي دخلت التاريخ كظاهرة بينما نسينا شخوصها.
أصبحت مشاجرات البرلمانيين بالأيدي أو بالسباب ظاهرة منتشرة وكأنما اغتيال الشخصية معنويًا لا يكفي، وامتد ذلك من النخبة السياسية في القاعات الرسمية إلى المجال العام ليصبح المناخ السياسي كله خانقًا باتهامات واتهامات مضادة لا نعرف ما هو الصحيح منها وما هو الخطأ.
المشاجرات في مجال الإعلام أوسع وكانت سباقة وبدأت مع ظاهرة الفضائيات العربية التي بدأت في التسعينات وكانت وسيلة بعضها لكسب الجمهور هي برامج حوارية مثل صراع الديكة يصل المذيع والمخرج إلى القمة إذا نجحا في دفع المتحاورين إلى الاشتباك بالأيدي ولتذهب إلى الجحيم القيم وآداب الحوار. وامتد ذلك من السياسة إلى البرامج الاجتماعية التي لا تتورع عن توجيه اتهامات في العرض والأخلاقيات، والنتيجة تعميم قيم خاطئة في المجتمع وبين النشء لتصبح السوقية هي القيمة المجتمعية التي نتداولها سياسيًا وإعلاميًا، كل ذلك من أجل لحظة نجومية عابرة إعلاميًا وسياسيًا.
كيف نحارب هذا التهافت والسوقية؟ بالتمسك بالأصول والقيم والاحترام في حياتنا العامة ليكون هذا هو العرف السائد ومحاصرة السوقيين بالأخلاق والتشديد في مواجهة انتهاك القيم، واستخدام التعبيرات الصحيحة في تعريف الأشياء، فكثير مما كان يجري تمجيده كعمليات انتحارية وبطولات ليست أكثر من قتل دون تمييز وها هي النتيجة؛ انتشر الأسلوب وأصبح هناك تفجيرات وقتل يومي عشوائي بشعارات مختلفة في عواصم المنطقة والعالم.