فايز سارة
كاتب وسياسي سوري. مقيم في لندن. عمل في الصحافة منذ أواسط السبعينات، وشارك في تأسيس وإدارة عدد من المؤسسات الإعلامية، وكتب في كثير من الصحف والمجلات، ونشر دراسات ومؤلفات في موضوعات سورية وعربية. وساهم في تأسيس العديد من التجارب السياسية والمدنية.
TT

النزهة الروسية في سوريا!

تصور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن التدخل الروسي في سوريا سوف يكون مجرد نزهة، ينتقل فيها الجنود الروس من برد موسكو، ليتمتعوا بشمس سوريا وهوائها بعيدًا عن البرد الروسي. وبسبب من تلك الرغبة العارمة، فقد استعجل بوتين إرسال جنوده في سبتمبر (أيلول) بدل أن يؤجل رحلتهم إلى أواخر مارس (آذار)، حيث يبدأ الربيع السوري.
العوامل التي سرعت بإرسال الجنود الروس إلى سوريا كانت متعددة؛ أولها كان أطماع بوتين في استعادة روسيا لمكانتها في مياه المتوسط الدافئة، وهو أمر تختلط فيه المكاسب السياسية العاجلة والاستراتيجية، والأمر الثاني، أن هناك طلبًا من نظام الأسد في سوريا وموافقة إيرانية على دور روسي قوي وفعال لحماية النظام ومساعدته في إعادة تأهله وإحكام قبضته في سوريا، والثالث عدم وجود ممانعة من جانب الإسرائيليين والأميركيين واستعدادهم للتفاهم مع وجود روسي قوي في سوريا وسط رخاوة في الموقف الإقليمي والدولي المعارض لدور روسي في سوريا.
وسط تلك العوامل، بدا أن أمام بوتين فرصة ذهبية لإرسال جنوده إلى سوريا، فتم إرسال جنود مع طائرات وقواعد صواريخ وقوات بحرية وبرية، تساندهم عند الحاجة قواعد صاروخية من بحر قزوين وغيرها. ومما عزز فرص إرسال الجنود عاملان؛ أولهما روسي، يتعلق بمحدودية تكاليف القوات وعملياتها المتوقعة، التي يفترض أنها محسوبة على ميزانية وزارة الدفاع الروسية في بند ميزانية التدريب، والثاني طبيعة القوى التي يفترض أن تدخل معها القوات الروسية في الاشتباك، وهي قوى محدودة العدد والتسليح، ومحدودة الخبرة والإمكانات العملياتية مقارنة بما عليه القوات الروسية، إضافة إلى ما يحيط بها من مشاكل الانقسام والصراعات الداخلية وغياب دعم قوي وفعال يساندها من الناحيتين السياسية والمادية.
ورغم أن الهدف المعلن لمجيء القوات الروسية هو محاربة الإرهاب وتنظيم داعش الذي أصبح هدفًا عالميًا، فإن القوات الروسية ركزت هدفها ليشمل قوى المعارضة المسلحة المعتدلة أساسًا، التي تصنفها موسكو في عداد «التنظيمات الإرهابية»، ومنها قوات سلحتها وساعدتها الولايات المتحدة وحلفاؤها في السنوات الماضية.
لقد بدّل دخول القوات الروسية إلى سوريا التوازنات الميدانية القائمة بين النظام وحلفائه من الإيرانيين والميليشيات وقوى المعارضة المسلحة من جهة أخرى، وجاءت العمليات الجوية الروسية لتؤكد هذا التغيير، ولم يكن بإمكان قوات المعارضة فعل الكثير في مواجهة طيران كثيف وحديث بتقنيات عالية وأسلحة دقيقة.. طيران وحشي لا يردعه رادع في ضرب الأهداف العسكرية والمدنية على السواء، بل إن ضرب الحواضن الاجتماعية للمعارضة في المدن والقرى وإيقاع أفدح الخسائر قتلاً وجرحًا وتهجيرًا، كان جزءًا من استراتيجيته.
إن التعبير اختلال موازين القوى بعد التدخل الروسي في سوريا، يمكن رؤيته في النتائج التي ترتبت على المشاركة الروسية في المعارك، والتي كانت، إضافة إلى عمليات القصف والاستطلاع، قيامه بمساندة قوات النظام في هجماتها على المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وكان من نتائج تلك المشاركة تراجع المعارضة عن مناطق واسعة في ريف حلب الجنوبي والشمالي وفي ريف اللاذقية، رغم الصمود العالي الذي أبداه مقاتلو المعارضة في أغلب الجبهات.
لقد جعل اختلال موازين القوى والظروف المحيطة بالمعارك في البعدين الداخلي والخارجي، النزهة الروسية في سوريا أصعب قليلاً مما تصورها بوتين، الأمر الذي لم يمنعه من استكمالها، ولو تكلف الأمر أكثر بقليل مما كلفته حتى الآن، وهو أمر ظاهر في موقفه وفي تصريحات المسؤولين الروس المصرين على متابعة عملياتهم العسكرية في سوريا، حتى تحقيق أهدافها.
غير أن المراهنة الروسية على استمرار المواجهات ونتائجها لصالحهم وصالح نظام الأسد وحلفائه في شمال سوريا لا يملك أي ضمانات مستقبلية، ذلك أن ثمة متغيرات أخذت تتوالى في المستويين الداخلي والخارجي، أبرزها أمران؛ ففي المستوى الداخلي ثمة تغيير في واقع القوى المسلحة للمعارضة السورية من حيث تقاربها، وتراجع صراعاتها الداخلية، وهناك تحولات نحو أساليب وتكتيكات عمل مختلفة عما كان سائدًا في الفترة السابقة. وهذا العامل سوف يتطور بسرعة كبيرة في الفترة القريبة القادمة، إضافة إلى تغييرات على العامل الخارجي، وفي مؤشراته اعتراض سعودي - تركي على ما يحصل في سوريا واحتمالاته، بل إن هذا الاعتراض انخرط في مساعي بناء تحالف إسلامي على أرضية موقفه، وهو تحالف من الصعب تجاهله، وتجاهل موقفه، سواء من جانب الحليف الغربي - الأميركي، أو من جانب الخصم الروسي - الإيراني، لأن من شأن موقف كهذا حصول أمرين اثنين؛ أولهما تصدعات في التحالف الغربي مع قوتين كبيرتين في المنطقة هما السعودية وتركيا، والثاني احتمال قيام صراع عسكري سعودي - إيراني وتركي - روسي، وكلاهما أمر غير مرغوب فيه، ويمكن أن يتطور إلى صراع قد لا يكون بالإمكان ضبطه.
إن فتح الصراع في سوريا وحولها في ضوء التحولات المقبلة، التي تتشكل قواعدها حاليًا، يمكن أن يحول ما بدا أنه نزهة روسية إلى سوريا إلى كارثة على الروس، الأهم في معالمها عودة المتنزهين الروس في صناديق خشبية، على نحو ما يعود الجنود الإيرانيون وقتلى حزب الله اللبناني.