غفلة المخابرات الإنجليزية عن المناظرات اللندنية

كلٌ يبحث في عن حقيقة «داعش»، وكيف ظهر التطرف، ولم أصبح هذا التطرف بهذه الوحشية ولم فُقدت الإنسانية من ضمائر المتطرفين، وأين يكمن الخلل الحقيقي فيما تُعانيه البشرية المعاصرة، وهل هناك فكر معتدل يمكن أن يُحارب الفكر الداعشي المتطرف. كنتُ خلال العقود الثلاثة الماضية أرقب الفكر عامة الفلسفي والديني والعقدي، ومما لفت فكري تلك المناظرات الفكرية التي تؤسس للفكر المتطرف سواءً كانت تؤسس لأصول تنظيم القاعدة الإرهابي أم تُجذر فكر تنظيم داعش المتوحش الإرهابي، ومن تلك المناظرات مناظرة حول الخلافة تم عقدها في لندن خلال عام 1997م، وقد ظهرت فيها أفكار خطيرة ومؤثرة على زمننا المعاصر، وكان يمكن لدوائر الأمن في الدول المتقدمة، وكذلك باقي الدول التي اكتوت بنار الإرهاب فيما بعد، أن تتنبأ بوجود فكر صاعد سوف يؤسس لتنظيمات متطرفة. بيد أن ذلك التنبؤ لم ولما يتم حتى الآن باعتبار أن تلك الأصول والتجذرات الفكرية المؤسسة لتلك التنظيمات لا تزال موجودة يعب منها الغر المتسربل بفكر الشهادة الوهمية فيصدر ويورد منها وإليها. وكانت خطورة تلك المناظرات أنها تؤسس لأفكار التكفير والولاء والبراء، ويمكن أن أسميها ثقافة المناظرات لدى الفكر التكفيري المتطرف، وقد وجدت تلك المناظرات خلال الثمانينات أيضًا، فقبل أكثر من ثلاثة عقود كانت مدن الرياض والكويت ولندن، وقد امتلأت بالعصف الذهني والفكري من خلال عقد عدة مناظرات فكرية عقدية، ويتخلل تلك المناظرات تقعيد وتأصيل وتأويل وعرض للأدلة التفصيلية بمعزل عن الأكاديميات العلمية والمدارس التقليدية لدى العلماء التقليديين، وكذلك فإنها منفصمة عن دوائر الثقافة سواءً كانت الأندية الثقافية أم المجالس والجلسات الثقافية الخاصة، فقد كانت تُقام ويحضرها العدد الكثير وينتشر خبرها، وكان ينقصها آنذاك التسجيل والتصوير، حيث لم تُدرك تلك المناظرات والمتناظرون وسائل التواصل الاجتماعي، ولعلها كانت نعمة على المتناظرين ومن بعدهم ألا يسمعوا ويتم نشر تلك الشبهات والتأويلات على وسائل سريعة العدوى والاشتعال الفكري، ولدى وسائل الاتصال الاجتماعي صفة تنزيل المعدوم منزلة الموجود وتنزيل الموجود منزلة المعدوم، فهي تجعل من الحدث غير المتصف بشيء أن يكون شيئًا كبيرًا. فقد كانت تُعقد مناظرات لتكفير الدول والحكام في وسط مدينة الرياض خلال الثمانينات، وقد يكون أحد أطرافها ممن لا يحمل هذا الفكر ولم يخطر بباله أن يُعالج تلك الإشكاليات الفكرية بالطرق الرسمية. كانت تلك المناظرات وقودًا لحشد الأتباع وتعميق الفكر المتطرف الذي يتكون من نواته كثير من جذور التنظيمات الإرهابية المعاصرة.
كذلك كانت تُعقد المناظرات خلال الثمانينات في وسط الكويت ويجتمع لها العدد الكثير، وقد كانت تضم كثيرًا من منظري فكر التكفير والقتال، وأيضًا كانت تضم أعتى أصحاب فكر تأسيس وتقعيد فكرة الخلافة، بل إن منهم من أصبح داعية وقاضيًا لجماعة المسلمين التي أصلت فكرها من خلال مثلث الرعب بيشاور والجزائر والكويت، وكانت تضم أشد المتطرفين إجرامًا منذ بدايات ما سمي بـ«الجهاد الأفغاني» وما شابه والذي ألقى بظلاله على مجتمعاتنا فكاد يدمرها لولا تماسك الدول وخصوصًا الدولة السعودية. وكانت مناظرات الكويت قد خرجت من أسس لفكر «القاعدة» وتنظيم داعش، وكذلك مناظرات لندن فإنها كانت تضم من أعتى المجرمين الإرهابيين الذين صنفوا كتبًا وأقعدوا فتاوى للقتل والحرق والتفجير والتكفير والتدمير، وإنني عندما أرجع بالفكر والذاكرة الزمنية للوراء لتك الحقبة فإنني أُصاب بالدهشة والذهول عن تلك الأدوار التي تصور نفسها بها تلك المخابرات الدولية وخصوصًا الإنجليزية والأميركية والأوروبية أنها مخابرات تعلم كل شيء بشري عن بني البشر من خلال أجهزة تنصتها ومراكزها البحثية، بيد أن واقعنا المعاصر الآني يجعلنا على يقين أن تلك المخابرات لم تكُ تعلم عما يدور في عمقها الأمني والاستراتيجي، فقد كان رؤوس الإرهاب الفكري يؤصلون ويقعدون لفكر «داعش» المعاصر، ويجذرون الفجوة لدى مواطنيهم الذين يعتنقون دين الإسلام بينهم وبين دساتيرهم الإنسانية، وإنني على يقين أن كل إرهابي أوروبي كان متأثرًا بتلك الحركة الفكرية التي كانت تلك المناظرات والدروس الفكرية التي يتم عقدها أمام مرأى ومسمع تلك المخابرات المتقدمة إلا أنها لم تُحرك ساكنًا، وكان يتوجب عليهم أن يعوا خطر الموقف وخطورة الفكر وأن يُبادروا لئن يجلبوا خبراء حقيقيين بذلك الفكر الإرهابي المتطرف كي يمنعوا ما وصلنا إليه من أخطار معاصرة قد تجذرت في المنطقة لدينا ولديهم وأصبحنا أمام مرمى خطر الإرهاب المتطرف، فهل كانت غفلة المخابرات في دول تلك المناظرات فشلاً ذريعًا أم غفلة مقصودة كي ينمو العدو لاستغلاله كما تم استغلال فكرة «الجهاد الأفغاني» وإن كانت الأخيرة فقد أيقنا بحدوث فشل مقصوده لأن ذلك الجهاد قد ارتد على من أراد استغلاله.
إنني أمام لحظة فارقة في تاريخنا المعاصر كي يتم اجتثاث الفكر الإرهابي المتطرف وذلك من خلال دراسته دراسة متأنية بكل شفافية وصدق ودون إهمال أو تقصير في سبر أغوار فكر التطرف وبلا غفلة من المخابرات عما تفعله المناظرات.