محمد بن حسين الدوسري
TT

الود والعطاء في حقيقة أهل محاسن الأحساء

فقد حدثتني والدتي وضحى بنت فجحان التي تبلغ من العمر أكثر من ثمانين عامًا أنها كانت طفلة مع والدتها تتردد على أسواق الهفوف والمبرز بعدما يأتي الصيف (القيظ بمسمى أهلنا العامية في الأحساء)، وذلك للادخار واستقبال شتاء قارس البرودة في صحراء الدهناء عندما يذهبون لطلب الكلأ لإبلهم وماشيتهم، وكانت رؤيتها لأهل الأحساء (أهلنا وناسنا) تخلو من الغل والحقد والحسد والكراهية، ولم تحدثني قط عن أي حادثة حقد أو حسد أو غل من تلك الأحساء وأهلنا بل إن كيانها ينطق دومًا بأن الأحساء (وأهله أهل خير وبركة وأرضه مبروكة)، وتلك رؤية كل من عرفته من كبارنا في السن ممن أدركتهم وقد أدركوا جلهم الحكم العثماني ثم الحكم المبارك في الدولة السعودية الثالثة، إنها نظرات وتأملات في تعايش أهل محاسن الأحساء المنبثق أصلاً من حي المبرز والهفوف والقرى الشمالية والشرقية ومن أعالي العيون إلى أقصى جبل القارة ومن كل ركن حي من أحياء تلك الأحساء الضاربة أعماقها في أقاصي التاريخ القديم، ومن تلك الأعماق التاريخية كان أهلنا يقطنون تلك الأحساء الجميلة الهادئة بأهلها وحقيقتهم الطيبة غير المتكلفة، فمنذ أكثر من عشرة عقود كان أهلنا مغرمين بالسكنى في هجر وتحديدًا الأحساء، حيث كان التعايش الحقيقي ولا يزال في تلك المنطقة التي يتمثل فيها حقيقة الخلاف الفقهي المذهبي والخلاف العقدي بين أهل ملة الإسلام، ولقد كنتُ معاصرًا لبداية نشأة حسينية الرضا حيث كانت قريبة جدًا من بيتنا ولم نجد فيها أي غضاضة أن نتعايش سلميًا مع أهلنا في تلك المحاسن البهية. وكانت منارة للتأصيل العلمي والتأهيل العلمي المنهجي لمدارس الفقه الحقيقية في تمثيلها، والمدرسة الحنفية بتلاميذها وفقهائها، والمدرسة المالكية ولها مريدوها وعلماؤها والمدرسة الشافعية بعائلاتها وأصوليّيها، والمدرسة الحنبلية بقضاتها ومدارسها، وهذه الحقيقة في التنوع والاختلاف العلمي والعقدي هي من أهم قيام الحضارات ونشوء التنوير العقلي والارتقاء بالنفس الإنسانية كي تسمو على صغائر الأمور ومحدثات العقول ضيقة الأفق. إلا أن ذلك التنوع كان له خصوم وأعداء لأن ذلك التنوع العقلي والفكري هو العقبة الكؤود لحركة ما يسمى بالصحوة الإسلامية، فمنذ دخول تلك الصحوة إلى بلادنا لم يعد للقيم الحضارية أي معنى في نظرة تلك الصحوة المشؤومة، ومن تلك الأفكار والمعاني التي جاءت تلك الصحوة بترسيخها لطرد تلك القيم الحضارية التي ترفع كفاءة العقل البشري، هو طمس الفكرة الوطنية وقتلها في روح ونفس المواطن السعودي وجعله يفكر بطريقة أممية حتى يخرج من محيطه ويسهل إدخال كل فكرة ونبتة خبيثة يمكنها أن تسحق كل خلية مؤمنة بالسلم الأهلي في عقله وكيانه، وذلك حتى تجعله يتسربل بسربال الوهم الأممي وفكرة الخلافة، مما يجعله سلاحًا فتاكًا ضد مجتمعه وأهله وكيانه الوطني، فقد تتبعت نشأة فكرة نبذ الوطن والوطنية في بلادنا المباركة وكيف أتت ومن أين ابتدأت، وقد وجدتها للأسف ابتدأت منذ عام 1389هـ الموافق 1969م، في مقال (القرآن ومعركة المصطلحات)، حيث يقول مؤلفه الذي ظل زمنًا مهمًا ومدة طويلة يلقي دروسًا على النشء الشاب في المدينة النبوية «هذا المصطلح لم يكن معروفا في تاريخنا، وكلمة (مواطن) لا مدلول لها في المعجم الإسلامي، لأن الولاء في الإسلام للعقيدة، لا للأرض ولا للقوم، ولا لغيرها من الاعتبارات الأخرى التي دخلت ثقافتنا حديثًا بتأثير الغزو الفكري الأوروبي حيث استلهمت من أوروبا الغربية خصوصًا فرنسا وإنجلترا ولو أننا رجعنا إلى القرآن الكريم لاستخلاص المصطلح الإسلامي لم نجد ذكرًا للوطن ولا للمواطن، وإنما يستعمل القرآن كلمة أخرى وهي (الدار) - معرّفة بالألف واللام تارة، وبالإضافة تارة أخرى»، وهذه الفكرة الحقيقية التي تم ترسيخها بعد ذلك لمدة خمسة عقود وقد تشربها كل أبناء هذا الوطن فمنهم من رفضها ومنهم من ترسخت في عقله وأعماقه وأصبح ميالاً لفكر الأوهام الدينية في الخلافة ومفاصلة المجتمع وتقسيم أبناء الوطن إلى ملتزم وغير ملتزم. ولم تكتفِ الصحوة بذلك بل إنها تُعزز ذلك بترسخ «فالعقيدة في الإسلام قبل (الوطن) أو (الدار) وفي حالة التعارض على المسلم أن يهاجر من بلده ويترك داره «الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَة ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَة فَتُهَاجِرُوا فِيهَا...» ومن هنا كان المصطلح الإسلامي (دار الإسلام) مصطلحًا قرآنيًا - بالمعنى لا باللفظ - تبرز فيه العقيدة قبل الأرض، وتستمد الأرض فيه قيمتها من العقيدة التي فوقها، والناس في دار الإسلام لا ينسبون إلى الأرض (مواطنون) وإنما ينسبون إلى عقائدهم (مسلمون)»، من خلال هذه الفكرة التي تجعل الفرد المواطن ينفصم عن وطنه وتجعل ارتباطه غير محدود، وتُبرز القفز على الأزمنة والتاريخ كي يقبع ذلك الفرد في أحضان الماضي بفهوم أهل عصر حاضر ومن خلال رؤيتهم للدين وأركانه وقواعده، وهذه إشكالية حقيقية لما تُحل حتى وقتنا الحاضر، وهي تنزيل فهوم أهل العصر للنصوص الدينية والتأريخية بتعلقها بفهوم وظروف الماضي، وكذلك تنزيل فهوم أهل العصر على قيم ومعانٍ مجردة جاءت بها النصوص الشرعية ثم جعل تلك القيم مربوطة ومشروطة بمحددات تلك الفهوم المعاصرة دون أدنى ارتباط بين تلك القيم وتلك المشروطات والمحددات، وما لم تُحل تلك الإشكاليات فإن تلك الإسقاطات المختلة فكريًا وعقديًا وحضاريًا سوف تبقى تأكل مجتمعاتنا باسم اتباع النصوص المقدسة وسوف يبقى ذلك الشاب الغر الصغير يتغذى بتلك الأفكار التي لم تُبحث ويُنفض عنها الغبار كي نحمي كينونة مجتمعنا، وسوف يقوم ذلك الغر الصغير بكل بساطة جنونية وعفوية شيطانية إجرامية بأن يلوي حزامًا قاتلاً كي يُحقق فكرة وهمية لا حقيقة لها في النصوص الشرعية ولا المقاصد الإسلامية، وإنما وجودها فقط كان ينخر مجتمعنا عبر تلك الإسقاطات التي قتلت فكرة جميلة اسمها الوطن والمواطنة عبر أفكار ترسخت لدى من يحملون في دواخلهم ظروف حمل تلك الأفكار وقذفوا بها في مجتمعنا وأصبحنا نكتوي بها حتى اللحظة المعاصرة لتقتل حياة سليمة هادئة عاشتها الأحساء عبر عقود طويلة ونعمت بها محاسن أرامكو منذ نشأتها، إلا أن تلك الأخلاق الفاضلة التي يتمتع بها أهلنا في الأحساء سوف تكون سدًا منيعًا أمام تلك المحاولات الإجرامية التي ترنو إلى فرض حرب طائفية أهلية، وإن الدولة السعودية بجهاتها الأمنية هي الحقيقة الموجعة لذلك الإرهاب ذي الأفكار الوهمية، ويتوجب أن يتم توفير كل الإمكانيات وتسخيرها لأولئك الأبطال سواءً كانوا ظاهرين أم كانوا ليسوا ظاهرين ممن يسهر على أمن وطمأنينة وطننا الغالي.