باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

الوطنية حكمة واعتدال أيضًا

شئنا أم أبينا، فإن اتفاق الطائف أنهى الحرب الأهلية في لبنان. ووفر للبنانيين خمسة عشر عامًا من السلام والأمن، وإن كانا منقوصين بسبب الوصاية السورية التي أعقبته وتلاعبت في تنفيذه، وأيضًا بسبب النفوذ السياسي والعسكري الإيراني، عبر حزب الله ومقاتليه وصواريخه. ولا ننسى تأثر السياسة والسياسيين اللبنانيين بالنزاعات العربية - العربية، قبل ما سمي بالربيع العربي ولا سيما بعد تحوله إلى زلزال يهز مصير المشرق العربي والشرق الأوسط.
ولا شك في أن اتفاق الطائف حسم نزاعات طائفية - سياسية تلت استقلال لبنان وميثاق 1943 غير المكتوب، حول نهائية الكيان وعروبة لبنان وتوزيع الصلاحيات التنفيذية بين رئيس الجمهورية (الماروني) ورئيس الحكومة (السني) بحيث أصبح نظام الحكم في لبنان ديمقراطيًا برلمانيًا بعد أن كان في الدستور السابق رئاسيًا أو شبه رئاسي، إذ بات رئيس الحكومة مختارًا من الأكثرية النيابية لا معينًا من رئيس الجمهورية، وهذه الأكثرية لا يمكن أن تتكون إلا إذا شارك ممثلو كل الطوائف فيها. وتطمينًا للمسيحيين القلقين من تنامي نسبة عدد المسلمين على نسبة عدد المسيحيين في لبنان، فقد نص اتفاق الطائف على المناصفة في الوظائف العامة بين المسيحيين والمسلمين، كما نص على أن «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك».
لسوء الحظ لم تنفذ كل بنود الاتفاق كاللامركزية وإنشاء مجلس شيوخ وانتخاب مجلس نيابي على أساس غير طائفي وإنشاء هيئة لدراسة إلغاء الطائفية السياسية. ولا شك في أن شخصية رفيق الحريري الاستثنائية، وهو الذي تولى رئاسة الحكومة في معظم السنوات التي تلت اتفاق الطائف ساعدت على تنفيذه، رغم ابتساره، وعلى انبعاث لبنان جديد من رماد الحرب الأهلية وإطلالها غير أن الأمور تغيرت بعد اغتيال الرئيس الحريري وانسحاب القوات السورية من لبنان وعودة الجنرال عون من منفاه وانقسام المناخ السياسي والوطني بين 8 و14 آذار، وتحول حزب الله من مقاومة إلى ميليشيا مسلحة وتحالف التيار العوني معه، ولا سيما بعد اندلاع الحرب الأهلية في سوريا وإرسال حزب الله مقاتليه لمساندة الحكم فيها.
وها هو لبنان عالق منذ سنتين في أزمة وطنية - دستورية - سياسية من جراء هذا الانقسام السياسي الحزبي الداخلي وبانتظار مآل الأمور في سوريا (وربما في المنطقة) لا رئيس للجمهورية، لا قانون انتخابات وحكومة لتصريف الأعمال، تحكم ولا تحكم، بانتظار المجهول.
وأخطر ما في هذه الأزمة السياسية والدستورية هي الشعارات الطائفية التي ترتفع في أرجائها ولا سيما بالنسبة، لـ«شخصية» رئيس الجمهورية، كالقول بـ«رئيس قوي» أو «رئيس يمثل المسيحيين» أو «رئيس يحكم». أو بتعبير آخر رئيس ينقض اتفاق الطائف الذي لم يحرم رئيس الدولة من صلاحياته كمرجعية وطنية وسياسية عليا ولكنه أناط السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء. فرئيس الجمهورية المناسب لتطبيق صحيح للدستور ولاتفاق الطائف ليس الذي ينتزع من مجلس الوزراء أو رئيسه صلاحياته، بل الذي تختاره أكثرية نيابية أو كتلة سياسية تضم مسيحيين ومسلمين. أما العكس، فإن مآل ذلك حتمًا هي حرب أهلية جديدة في لبنان.
مشكلة بعض القوى السياسية الجديدة وربما الأجيال اللبنانية الطالعة هي في جهلها أو تجاهلها لتاريخ لبنان الحديث ربما لأنها ولدت مع الحرب. ولو تأملنا في تجربة الرئيسين الشيخ بشارة الخوري والجنرال فؤاد شهاب، اللذين لم يكونا واسعي الشعبية في الجماهير المسيحية ولكنهما جلبا إلى لبنان الاستقلال وبناء الدولة الحديثة.. لأدركنا أن الوطنية والاعتدال صنوان وأن الوحدة الوطنية تدعمها الديمقراطية وتصونها الحكمة، لا النصوص والدفاع عن حقوق الطوائف وصلاحيات من يمثلها في الحكم.
فالمهم هو أن تتحاور الطوائف وتتفق على برامج وطنية مشتركة عبر ممثليها، ولا أن تتنافس على تناتش الوظائف والمكاسب والصفقات.
قبل اتفاق الطائف عرف لبنان حكمًا وطنيًا تعاون فيه سياسيون أمثال حميد فرنجية وفيليب تقلا وصائب سلام وحسين العويني ورشيد كرامي وفؤاد بطرس وغيرهم ممن تطول لائحة ذكر أسمائهم، عملوا على تدعيم الوحدة الوطنية والدفاع عن الوطن وبذل المستطاع لبناء دولة حديثة. وكان رائدهم الحرص على الوحدة الوطنية والاعتدال والحكمة والتمسك بالدستور والمواثيق. ولم يجنح لبنان نحو التوتر والثورة والتقاتل الطائفي إلا عندما خرج بعض حكامه وسياسييه وأحزابه عن تلك القواعد البسيطة في شكلها والعميقة في جذورها والإيجابية في نتائجها.
صحيح أن التاريخ لا يعود إلى الوراء وأن لكل زمان دولة ورجالاً، وأن القوى الإقليمية المؤثرة فيه وعليه هي غير ما كانت في السنوات الأولى بعد استقلاله، وأن بناء الدولة الحديثة لم يستكمل، ولكن لا بد من الاعتراف بأن الرئيس بشارة الخوري استقال من الرئاسة وكان يملك أكثرية برلمانية كي لا يسيل دم متظاهر في الشارع، وأن الرئيس شهاب هو من طلب من نواب النهج أن يسلموا بفوز سليمان فرنجية الذي فاز بفرق صوت واحد على المرشح الشهابي، وكان الجيش في يده.
ومن يشك في ذلك أحرى به أن يستعرض التاريخ ابتداء بالانقلاب السوري عام 1949 وانتهاء بالربيع العربي السيئ الذكر.