عادل الطريفي
رئيس تحرير صحيفة «الشرق الأوسط» ومجلة «المجلة». حاصل على درجتي الماجستير والدكتوراه في العلاقات الدولية من كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية.
TT

مشاهدات قاهرية

* خلال زيارتي لمصر هذه المرة لفت نظري في الطائرة قلة عدد الركاب، لا سيما في مقاعد رجال الأعمال والدرجة الأولى. أمر يراه كثيرون طبيعيا في مثل هذه الظروف التي تمرّ بها مصر والمنطقة. فكما يقال «رأس المال جبان» يخشى الاضطرابات ويهرب من علامات الاستفهام. وحقا، الصحف المصرية كانت من جهة ممتلئة بالحديث عن «نصر أكتوبر»، لكنها من جهة ثانية وفي الوقت عينه، منشغلة بملفات عن عنف المظاهرات المحسوبة على الإخوان.
* هبطت الطائرة التي أقلتني من جدة إلى القاهرة في المطار عند الساعة الثامنة إلا ربعا. وكنت قد تبلغت بوجود حظر التجول منذ السابعة، ولكن يجري استثناء القادمين والمغادرين إلى المطار. ولدى الخروج من مبنى المطار، بعد إنهاء الإجراءات الروتينية، كان ملاحظا أن نقاط التفتيش في الطريق نشطة، ومدرعات الجيش وآليات نقل الجنود تساند رجال الشرطة والأمن في مهام حفظ الأمن والنظام.
* داخل القاهرة لاحظت أن الشوارع الرئيسة شبه فارغة، والانتقال في الشوارع الخلفية محدود للغاية، ولكن ثمة حافلات صغيرة (ميكروباص) تنتقل في الحارات الجانبية لتلافي الإغلاق، وغالبا ما يلجأ إليها أولئك الذين علقوا في أماكن عملهم أو زيارة الأهل والأصدقاء. كذلك المتاجر مغلقة منذ وقت مبكر.
* في الصباح الباكر حضر الرئيس الانتقالي - أو المؤقت - المستشار عدلي منصور مراسم الاحتفال بـ«نصر أكتوبر» بحضور وزير الدفاع الفريق أول عبد الفتاح السيسي، ونقل العرض العسكري على القناة الفضائية الرسميّة. غير أن المناسبة لم تمر من دون تشنج، وذلك في أعقاب إعلان الإخوان مسبقا، اعتزامهم تنظيم تحركات ومظاهرات احتجاجية ضد ما يدعونه «الانقلاب العسكري» في اليوم ذاته الذي تحتفل به مصر بإحدى أسعد المناسبات السياسية في تاريخها منذ 1973.
* وقعت عشية الزيارة مصادمات بين أنصار الإخوان وقوى الأمن المصري، وسقط عدد من القتلى (خمسة قتلى) والجرحى (40 جريحا)، كما اعتقلت السلطات 40 شخصا من أنصار الجماعة.
* الحياة عادت إلى طبيعتها في اليوم التالي، وسط ازدحام الشوارع بالمرور، وعودة رجال الأعمال والموظفين إلى نشاطهم. وفي المساء عاد مرتادو «المولات» التجارية إليها، وغصّت المطاعم ومقاصف الوجبات السريعة المحلية والأميركية ومتاجر الموضة بزبائنها من الطبقة المتوسطة، لا سيما في الأحياء والضواحي الراقية مثل مصر الجديدة و«التجمع الخامس» الذي أضحى من أرقى مناطق القاهرة بفيلاته الخاصة، و«مولاته» الفخمة.
* لا يخفى على عين زائر القاهرة هذه الأيام، امتلاء جدران بعض الشوارع بشعارات مناوئة للجيش، وأخرى مؤيدة للإخوان.. حيث شعار «رابعة» (الأصابع الأربعة السوداء على أرضية صفراء). وأعلمت أن هذه الشعارات غالبا ما تلصق خلال ساعات حظر التجول ليلا، ولكن خلال النهار يتحرك الباعة الجائلون رافعين صور قادة الجيش، ومشاهد من «نصر أكتوبر».
* لا أحد بالضبط يعلم مكان الرئيس المعزول الدكتور محمد مرسي، ولكن روح النكتة المصرية النابضة بالحياة في مختلف الظروف، أفادتنا بأنه «يأكل البط كل يوم» في إحدى الثكنات العسكرية.
* على الرغم من أجواء الانقسام السياسي الواضح، يلاحظ الزائر وجود حالة من الدعم الشعبي لما حدث يوم 30 يونيو (حزيران) الفائت. لا يمكن تجاهل هذه الحالة، وكذلك يستحيل ألا يتلمس مستوى عاليا من النقمة على مرحلة حكم الإخوان.
* لفت انتباهي أن بعض النخب المصرية التي التقيتها أثناء الزيارة تصف المظاهرات الإخوانية بأنها في ظاهرها سلمية.. لكنها في الواقع عنيفة «إذ إنهم يمارسون فيها عنفا لفظيا وجسديا»، وفي حالات أخرى تتبدى قلة الاكتراث بالموت - أو الانتحار السلمي - عبر التعرض لمؤسسات حساسة بالاعتداء.
* في الصباح الباكر أقلتني سيارة القصر الرئاسي في الموعد المحدد للقاء المبرمج بالرئيس عدلي منصور باتجاه قصر الاتحادية، واستغرق الطريق من البوابة حتى مدخل القصر فترة من الوقت من نقطة تفتيش إلى أخرى. بدت مظاهر الحماية العسكرية والأمنية عالية للغاية. ولدى دخولنا استقبلنا أمين المراسم وأرشدنا إلى صالون الانتظار، وطلب مني الانتظار: «الرئيس يسجل بيانا متلفزا للقناة الفضائية المصرية، ستلتقي به فور انتهاء التسجيل».
* مكتب الرئيس يقع في الطابق الثاني من قصر الاتحادية. فتح الحرس الباب لأجد الرئيس خلف مكتبه.. وهناك استقبلني مرحبا بابتسامة وقورة. شخصية الرئيس الانتقالي دمثة وطيبة، ولكن يبدو عليه الوقار واضحا، وتتجلى فيه صفات رجل القانون.
* تحدث الرئيس منصور بكل صراحة، وأجاب عن أسئلتي من دون تحفظ، واستشعرت من حديثه إحساسه بأهمية المرحلة التي تمر بها البلد. وعلى الرغم من اعترافه بأنه تردّد في قبول التكليف كرئيس انتقالي، لاحظت أنه على وعي تام بطبيعة الظروف الداخلية والدولية.
* موقف الرئيس منصور واضح في تقدير الدور السعودي والعربي، وخطأ بعض المواقف الغربية التي يقول إنها «أعادت حساباتها»، غير أنه متأكد، في المقابل، بأن مصر ستتجاوز الأزمة وإن كانت قد تستغرق بعض الوقت. ويتذكر الرئيس بسرور بالغ ذكرياته في السعودية أثناء عمله فيها في أوائل عقد الثمانينات من القرن الماضي، وكان قد سكن في الرياض عندما عمل مستشارا في وزارة التجارة، وما زال يتذكر جيدا مشاركته زملاءه في الرحلات البرية خارج العاصمة السعودية.
* بالنسبة للأوضاع الاقتصادية في مصر، يشير تقرير نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال» إلى أن الاقتصاد المصري يعاني من تداعيات المظاهرات المستمرة منذ سنتين. وعلى الرغم من عودة مؤشرات البورصة المصرية إلى الارتفاع، وكذلك الارتفاع النسبي لسعر صرف الجنيه المصري مقابل الدولار الأميركي بعد عزل الرئيس مرسي، فإن مصر تواجه ضغوطا اقتصادية ثقيلة تنمو مع الوقت. وهو ما يدفع الحكومة إلى التفكير بتحديد أسعار بعض السلع الغذائية، ورفع الحد الأدنى للأجور، بيد أن مثل هذه الإجراءات قد تؤدي إلى تراجع توقعات النمو، وعجز الحكومة عن تقليص العجز في الميزانية الذي يتجاوز اليوم 11 في المائة من الناتج الإجمالي المحلي.
* مزيد من الأرقام ذات الدلالة
يتجاوز عدد العاملين في القطاع العام 5.5 مليون شخص في دولة يتجاوز عدد سكانها نحو 90 مليونا، خلال السنة المالية 2012-2013 وفقا للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء. ولكن، مع هذا، أبدى المسؤولون المصريون الذين التقينا بهم، ثقة كبيرة في قدرة مصر على إنجاز المرحلة الانتقالية، وشعورا واثقا بأن ما حدث كان ضروريا للحفاظ على استقرار البلد وأمنها القومي.
* في مكان آخر، بعيدا عن كواليس السياسة وهموم الاقتصاد ومشاغل الأمن، كانت أسرة مصرية، في نهاية النهار، تحتفل بزفاف في أجواء فرح غامر، وتصدح الموسيقى بآخر ألبومات الغناء الغربي.. تماما كتلك التي تسمعها في مطاعم ومقاهي لندن أو نيويورك أو باريس.
* على شاشة التلفزيون، في نقلة زمنية بعيدة إلى حد ما عن الحاضر، كان هناك حوار على قناة «سي بي سي» مع جيهان السادات وابنها جمال عن ذكريات زوجها الرئيس الراحل أنور السادات، وخلال الحديث لفت نظري عن أحداث 15 مايو (أيار) 1971، أي نجاح السادات يومذاك في تصفية ما كان يدعوه «مراكز القوى». حسب الرواية كان الرئيس السادات ينام وبجواره مسدس، وفي تلك الليلة من شهر مايو نبهت زوجة الرئيس أولادها من أي هجوم مباغت. وذكرت أن السادات أبلغ بأن معارضيه ينوون احتلال الإذاعة، فبادر هو إلى إرسال حرسه الخاص لتأمينها.
أعجبتني صراحة السيدة جيهان عندما قالت «عندما سافر الرئيس (السادات) إلى القدس، لم أرتب حقيبتي للسفر أو أطلب مرافقته، ولم يسألني مرافقته، ولكن بكيت حينما أقلعت به الطائرة».
* سائق «التاكسي» (سيارة الأجرة) يشكو من انعكاس الأوضاع الأمنية على حالة السياحة شبه المشلولة، إلا أن من يصغي إليه يلمس في حديثه دعما لخطوات الجيش في سيناء، وإصرارا على وجود «مؤامرة تستهدف مصر وسياحتها» باستدارة عنف «الجماعة المخلوعة». أيضا، هناك حالة امتعاض محسوسة لدى البعض من موقف حركة «حماس» الفلسطينية الموالية للإخوان، واتهامات لها بالتورّط في الأحداث الأمنية في سيناء.
* المواجهات التي أعقبت فض اعتصامات الإخوان ومناصريهم في ميدان رابعة العدوية بالقاهرة، طالت بدورها أحياء سكنية، وبعض من التقيت بهم من الصحافيين تحدثوا عن معاناتهم للوصول إلى أعمالهم، وتعرض بيوتهم لإطلاق النار إثر المواجهات.
* تمر السيارة بحي العباسية في الطريق إلى أحد الاجتماعات، وهذا الحي هو مسرح أحداث قصة نجيب محفوظ «قشتمر»، وهو المقهى الذي جمع أصدقاء خمسة دارت السنون حولهم، لتشكل أحداث قصتهم سيرة التحولات الآيديولوجية من الإخوان والناصريين، وصولا إلى نهاية السبعينات. في «قشتمر» يظل رفاق الطفولة أصدقاء رغم تباعدهم الفكري والسياسي، ورغم تغير مصائرهم وتفاوت حظوظهم حيث ظلت العباسية حيهم، وقشتمر مقهاهم.
* لا يمكنك الحديث في الشأن السياسي في القاهرة من دون الحديث عن الفريق السيسي. يتمتع وزير الدفاع بشعبية كبيرة، ويقارنه البعض بجمال عبد الناصر، ولكن خصوم الفريق من الإسلاميين كثر، وعلى الرغم من الدعوات المنادية بترشحه للانتخابات المقبلة، فإن العسكري الذي قاد عملية عزل الرئيس مرسي يظل صامتا، وعلى الرغم من استهداف الصحافة الغربية المتكرّر له، فإن في ذلك استعجالا، فليس كل عسكري مشروع ديكتاتور. البرتغال - مثلا - تعرضت لتجربة مشابهة لمصر منذ ثورة 1974، وكان الشيوعيون كما الإخوان القوة الأكثر تنظيما، مما دفعهم إلى الاستئثار بالسلطة واختطاف نتائج الثورة، ولكن رغم ذلك تحولت البرتغال إلى دولة ديمقراطية، ويعود الفضل في ذلك إلى الجنرال أنتونيو رامالهو إيانش الذي قاد حملة عسكرية لمواجهة الضباط الشيوعيين، منهيا بذلك أي تهديد عسكري للديمقراطية الوليدة، ولينتخب بعد ذلك رئيسا للدولة.
* في المطار، أقلعت الطائرة مغادرة القاهرة باتجاه مطار هيثرو في لندن. وعن بعد في الأفق تنتصب، بجوار النيل، الأهرام التي صمدت عبر القرون شاهدة على ما واجهته مصر من تحديات وصعاب، قاعدتها راسية على الأرض وقممها تعانق السماء.