باسم الجسر
كاتب لبناني
TT

الإعلام الحديث ودوره في أحداث الشرق الأوسط

منذ مطلع شبابي إلى يومنا هذا، بليت بتتبع الأحداث السياسية والتعليق عليها، وأعترف اليوم بأن هذا العمل الذي كان يثيرني ويسرني ويكسبني في الماضي بات اليوم يتعبني ويعذبني. على الرغم مما توفره وسائل الإعلام الحديثة، من سعة اطلاع وسهولة في الحصول على المعلومات وما لم يكن متوفرا من قبل.
لم يكن للمحللين والمعلقين العرب من مصادر للأخبار، في أواسط القرن العشرين، سوى نشرة أخبار وكالات أجنبية لا تزيد صفحاتها على العشر، وأجهزة الراديو والمراسلين (إذا كانت ميزانية الصحيفة أو المجلة تسمح). وكانت الأخبار المحلية هي التي تحتل عادة أعمدة الصحف، في غياب حدث دولي مهم. وغني عن القول إن توزيع الصحيفة أو المجلة العربية، باستثناء مصر، كان لا يتجاوز بضعة آلاف.
أما اليوم، فإن كل أوضاع العمل الإعلامي وأدواته ومصادر المعلومات وتغطية الأحداث قد تغيرت بفضل الإنترنت والبث الفضائي والتغطية الصورية التلفزيونية والهاتفية. والسؤال الذي بات يفرض نفسه هو: هل ساعد الإعلام الإلكتروني المعلقين والمراقبين والمسؤولين السياسيين على اطلاع أفضل على الحقائق واتخاذ القرارات الحاسمة، أم أنه بكثافته وتسارع آنيته وتعددية مصادره وأغراضه، قد أضاعهم أكثر مما أرشدهم، وصعب عليهم عملهم بدلا من تسهيله؟ بل وتحول إلى سلاح أمضى من الطائرة والدبابة والمدفع؟
إن ما يحدث في العالمين العربي والإسلامي من انقسامات وصراعات وتقاتل لم يعد يعرف فيه بالضبط، في معظم الحالات، من يقاتل من، ولماذا يتقاتل أبناء الوطن الواحد والقومية الواحدة؟ إذ ليس من السهل على المراقب استيعاب أسبابه واكتشاف أبعاده وتقاطع مصالح المشاركين فيه وأهدافهم القريبة والبعيدة.
صحيح أن الأطراف المتقاتلة، من دول كبرى وإقليمية ومن تنظيمات وسلطات وأنظمة حكم، باتت معلنة أو معروفة، ولكن المشكلة هي في أنها في معظمها تمسك العصى من النصف. تتدخل ولا تتدخل. تضرب ولكن بمقدار.
وليت المشكلة أو الحيرة مقتصرة على الإعلاميين والمعلقين، ولا تمتد إلى أصحاب القرار في عواصم الدول الكبرى والدول الأخرى في هذا الصراع المصيري الذي يستبد بعدة دول عربية وإسلامية وبالشرق الأوسط عموما. ذلك أن أصحاب القرار هم أيضا كالإعلاميين يتلقون تقارير وتحليلات ودراسات من مستشاريهم ومن مراكز الدراسات السياسية والاستراتيجية - وما أكثرهم وأكثرها - بحيث إنهم يجدون أنفسهم ضائعين أو حائرين، فيختارون في النهاية مواقف وحلولا تخدم مصلحة آنية أو تستخدم كورقة لتصفية حسابات وقضايا أخرى. ولعل أفضل ما يمثل هذه المناورة موقف واشنطن من الثورة السورية وتدخل روسيا بهذا الشكل في الشرق الأوسط. والعلاقات الأميركية - العربية بعد توقيع الاتفاق النووي مع إيران.
إن وفرة المعلومات وسرعة تناقلها وسهولة الحصول عليها تكشف الأهداف والنيات، وتساعد كثيرا على الرؤية الصحيحة للنزاعات، وبالتالي على اتخاذ القرارات الصائبة والمسهلة للحل. ولكن كثرة المعلومات والتحليلات تؤدي إلى الحيرة واتخاذ القرارات الأقل نجاعة. لا سيما وأن عالم القرن الحادي والعشرين هو عالم جديد ومتجدد بسرعة كل خمسة أو عشرة أعوام. عالم تترابط فيه مصائر الدول والشعوب بشكل لم تعرفه الإنسانية من قبل. عالم إنقاذ الطبيعة والبيئة من جموح المجتمعات الصناعية وتلوثاتها. عالم ترابط مصائر البشر اقتصاديا وثقافيا.
إن العراك المحتدم في الشرق الأوسط ليس أحادي السبب والبعد، بل هو مزيج من الصراع الديني والطائفي والمذهبي والعرقي والسياسي والقومي والدولي. وليس هناك في قواميس السياسة أو كتب الحكمة حل واحد حاسم، أو دواء ناجع لكل تلك النزاعات المتداخلة التاريخية منها والعقائدية والسياسية. ومن هنا يسود الاعتقاد بأن المحنة أو بالأحرى المحن، التي يغرق فيها الشرق الأوسط - كي لا نقول العرب والمسلمين - مرشحة للتمادي سنة في أفضل حال وسنوات على الأرجح. وليس أمام المسؤولين الكبار، سوى الغرق في مزيد من الحيرة والتردد وزيادة المحن تعقيدا بأنصاف الحلول التي يتخذونها.
وأفدح من كل ذلك أن موازين القوى الإعلامية في هذه الحروب ليست هي ذاتها عسكريا وسياسيا.