أمير طاهري
صحافي إيراني ومؤلف لـ13 كتاباً. عمل رئيساً لتحرير صحيفة «كيهان» اليومية في إيران بين أعوام 1972-1979. كتب للعديد من الصحف والمجلات الرائدة في أوروبا والولايات المتحدة، ويكتب مقالاً أسبوعياً في «الشرق الأوسط» منذ عام 1987.
TT

سياسة أوباما في الشرق الأوسط.. نعي يتلوه جون كيري

عندما جاء وزير الخارجية الأميركي جون كيري في إحدى الأمسيات بمدينة نيويورك لكي يتحدث عن السياسة الخارجية للرئيس باراك أوباما، ظن الجميع أنه قدم ليثني عليها. لكن بعد مرور ساعة وإلقاء 6 آلاف كلمة، أصبح من الواضح أنه جاء لكي يدفنها. لقد تحول المديح المتوقع إلى نعي غير مقصود.
كيري استهل كلمته ببناء صرح من الحجج والأعذار لما كان يعلم، لكن لا يريد الاعتراف به، أنه فشل من العيار الثقيل. ولكي يسلط الضوء على سيرته الشخصية، أبلغ كيري الحضور أنه تناول العشاء لتوه مع هنري كيسنجر الذي أقر بأن العالم اليوم أكثر تعقيدًا مما كان عليه في الأيام الخوالي الطيبة.
وقال كيري مشددًا على كلامه إن كيسنجر «لم يجابه هذا العدد من الأماكن والأزمات المختلفة» التي يتعين على وزير الخارجية الحالي أن يواجهها. ويضيف أنه في «عالم الحرب الباردة ثنائي القطب، كان الاتحاد السوفياتي السابق والولايات المتحدة والغرب واضحين تماما إزاء الخيارات المتاحة». ويتابع كيري بأن عالم اليوم «متعدد الأقطاب» مما يجعل الخيار صعبًا، بيد أنه من الناحية اللغوية يعتبر مصطلح «متعدد الأقطاب» من قبيل الاستنباط الذي لا يتفق منطقيًا مع المقدمات، لا يوجد نظام يمكن أن يحتوي على أكثر من قطبين. لكن بما أننا نستخدم اللغة غير آبهين بالحيرة والارتباك الذي يمكن أن تحدثه ألفاظنا، فلا تلقوا بالاً للأمر.
وبدأ كيري كلامه بمحاولة إثبات أن واشنطن ما زالت مهتمة بمنطقة الشرق الأوسط، وقال في هذا الصدد: «ينبغي أن نتذكر أن الشرق الأوسط يضم بعضا من أقدم أصدقاء أميركا، بما في ذلك حليفتنا إسرائيل، ولكن أيضًا الكثير من الشركاء العرب». ويعني ذلك أنه بينما تعتبر إسرائيل «حليفة»، فالعرب مجرد «شركاء». ورغم ذلك، لا تعامل إسرائيل كدولة حليفة ولا العرب كشركاء.
وبعد يومين من بداية ولايته الرئاسية الأولى، عين أوباما السيناتور جورج ميتشل كمبعوث سلام للصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، كما تباهى أيضًا بأنه «عندما نلتقي العام المقبل» ستكون هناك دولتان: واحدة إسرائيلية والثانية فلسطينية.
لكن بعد مرور 7 سنوات، يقدم كيري نسخة مقتضبة جدًا من طموح أوباما. إن الهدف السامي المتمثل في إنشاء دولتين لا يأتي على ذكره إطلاقًا. ويقول عوضًا عن ذلك: «نحاول أن نقلص العنف... حول الحرم الشريف في القدس».
إن المهندس المعماري الطموح تنازل إلى مستوى رجل إطفاء يحاول إخماد ألسنة اللهب، ودون أن يدرك النجاح حتى الآن.
أما بالنسبة إلى «الشركاء العرب»، فلم يعد هناك حديث عن الخطط الكبرى الرامية إلى العضوية المنتسبة في حلف شمال الأطلسي (الناتو) والاتفاقات الجماعية للتجارة والتبادل التقني.
إن ما يعرضه كيري ما هو إلا شعر متواضع المستوى. ويقول: «تخيلوا مستقبلاً يستطيع فيه الناس من النيل إلى نهر الأردن إلى الفرات أن يعيشوا ويعملوا ويسافروا بحرية وكيفما شاءوا، مستقبلاً يحصل فيه كل صبي وفتى على تعليم جيد، مستقبلاً يستطيع فيه الزوار أن يأتوا من دون خوف».
حسنًا، الخيال لا يكلف شيئًا (وبالمناسبة، على المرء أن يتساءل: لماذا يتوقف عالم كيري التخيلي عند الفرات؟ هل يعني ذلك أنه لا ينبغي أن يذهب أحد إلى بغداد على نهر دجلة؟). على أي حال، ما الذي تفعله إدارة أوباما لكي تحقق هذه اليوتوبيا؟
إجابة كيري تتلخص في التالي: «طلبنا من شركة ماكينزي أن تدرس آفاق الاقتصاد في الأردن وسوريا وإسرائيل ومصر والضفة الغربية. ما يثير الاهتمام أن صديقي العزيز وزير خارجية دولة الإمارات العربية المتحدة، عبد الله بن زايد، طلب مؤخرًا أيضًا إعداد دراسة منفصلة «لكي يراجع» كل القطاعات بدءا من الزراعة وحتى السياحة». أي أن الولايات المتحدة تشتري دراسات تسويقية بدلاً من أن تطور سياسة خارجية في الوقت الذي تشتعل فيه الحرائق بالمنطقة. لكن الموقف الهزلي لا يتوقف عن ذلك الحد.
ويواصل كيري ليكتب منشورًا دعائيًا مصغرًا حول المعالم السياحية الجاذبة في المنطقة. ويقول: «أعني، فكروا في أعظم المعالم السياحية بالعالم. لقد زرتها... المكان الذي عمد فيه يوحنا المعمدان أناسًا كثيرين بما في ذلك السيد المسيح، المعبد القريب منه، وأحد أقدم المساجد في المنطقة... الجميع لديه شيء هناك، حتى الملحد إذا كان مهندسًا معماريًا ناشئًا لن يجد صعوبة في قضاء وقت ممتع هناك».
هل هناك أي مقترحات ولو على الأقل عن إعادة إطلاق «محادثات السلام» بين إسرائيل والفلسطينيين؟ لا يوجد. إذن ماذا عن أي أفكار حول سبل إنهاء المأساة السورية؟ لا يوجد. ماذا عن سياسة لهزيمة وتدمير «داعش» التي تعهد بها أوباما قبل 18 شهرًا؟ إجابة كيري كانت: «رأينا أن الأفكار التي يبثها الإرهابيون في الرقة والموصل يمكن أن تصل إلى عقول البسطاء في مينيابوليس وميسيسبي. نحن ندرك تمامًا أن الأحداث الجارية في الشرق الأوسط يمكن أن تؤثر على التصورات في جميع القارات لأن الناس يتأثرون بالتقاليد الروحية والأخلاقية التي تعود جذورها إلى تلك الأراضي القديمة». إذن، هل يمثل «داعش» تقاليد «روحية وأخلاقية»؟ حسنًا. لكن ماذا تنوي أن تفعل إزاء ذلك؟ لا يمتلك أوباما جوابًا.
لقد وعد أوباما بأن يدمر «داعش»، بيد أنه هذه هي إنجازات الإدارة الأميركية حتى الآن التي يوردها كيري: «لقد شننا أكثر من 7300 غارة جوية. أجبرنا (داعش) على أساليب تنفيذها للعمليات العسكرية... أمنا الحدود التركية - السورية شرق الفرات التي تمثل 85 في المائة من الحدود التركية. الرئيس يجيز أنشطة أخرى لتأمين المساحة المتبقية... صعبنا من مهمة (داعش) في إعادة تزويد مقاتليها في الرمادي بالمؤن». لكن كيري أمضى بعض الوقت في التباهي بـ«اتفاق» أوباما مع إيران بوصفه إنجاز الإدارة الوحيد في الشرق الأوسط.
ولذلك قال أوباما في 2008: «لا يمكننا السماح لإيران بالحصول على سلاح نووي... سأبذل كل ما في وسعي لمنع ذلك»، بيد أن إيران تحتفظ، بموجب «الاتفاق» الذي يتباهى به، بقدرتها كاملة على إنتاج ترسانة نووية في غضون عام واحد. وحتى مع ذلك، لم توقع إيران على أي شيء وترفض إقرار «الاتفاق» عبر آلياتها القانونية.
إن النجاح الوحيد الذي يورده كيري لا علاقة له على الإطلاق بالولايات المتحدة. «وبالنسبة إلى المتشككين، سأرد بكلمة واحدة: تونس».
إن تونس تبلي بلاء حسنًا إلى حد كبير في الوقت الراهن، لكن ما علاقة ذلك بأوباما؟ إن نعي كيري لسياسة أوباما في الشرق الأوسط زاخر بالجواهر. إليكم القليل منها:
• «الإسرائيليون ينبغي أن يحظوا بالأمن، الفلسطينيون ينبغي أن يحظوا بالأمن، الناس في غزة ينبغي أن يحظوا بالأمن، الجميع ينبغي أن يحظوا بالأمن».
• «العنف يؤذي الجميع: الأبرياء وعائلاتهم، اليهود والسكان العرب في إسرائيل...يؤذي الجميع».
• «في العراق، يعرض (داعش) النساء والفتيات في المزاد العلني، ويعلم الناس أن اغتصاب الإناث غير المسلمات هو شكل من أشكال العبادة».
• «الرئيس أوضح بما لا يدع مجالاً للشك أننا مصممون على تفكيك (داعش) على نحو أكثر سرعة».
• أرجوكم لا تتقبلوا رؤية القائلين بأنه ينبغي تقسيم الشرق الأوسط على أسس طائفية».
• «علينا جميعًا أن نبذل المزيد، لأن الناس بدأوا ببساطة يفقدون الإيمان بأي من زعمائهم».
بدأوا فحسب؟!