محمد بن حسين الدوسري
TT

قوة الضعف في مسار التحول

عبر الزمن، وتراكم التجارب، ومرور التاريخ على النفس البشرية، تكون هناك وقفة تحول مع الذات تجعل كل ذلك الكيان الممتلئ بيقينياته أمام شكوكٍ وظنون، وتلك الظنون والشكوك توقف تلك اليقينيات المتضخمة عند مرحلة التحول، مرورًا بنشأة مرحلة التغير الفكري والسلوكي لتلك الذات والنفس المحملة بتلك اليقينيات.
كانت هناك تحولات فكرية لكثير من علماء الفكر والتدين، وكذلك كانت هناك تحولات عميقة لكثير من الفلاسفة من اليقين إلى الشك، وكذلك من الشك إلى اليقين، وهي مراحل تاريخية وزمنية لا يعيها إلا من لحِظَها ومسته بضوئها ونورها، فتلك لحظات نورانية تفيض على تلك النفس والروح، كي تصبح تلك الذات واعية لما يترتب على تلك اليقينيات المحمولة، وقد سطرها التاريخ، بيد أنه (للناس تأسٍّ وعاداتٌ، وتقليدٌ للآباء والكبراء، ويعملون على الهوى، وعلى ما يسبق القلوب، ويستثقلون التحصيل، ويهملون النظر، حتى يصيروا في حالٍ متى عاودوه وأرادوه نظروا بأبصار كليلة وأذهان مدخولة)، ولقد أرّخ بعض الجماعات التي تسمي نفسها بـ«الجهادية» جملة من التراجعات والمراجعات المشروطة في عمقها وحقيقتها، وليست هذه المراجعات مرادة ولا مقصودة، لأنها تختلف جذريًا عن رجوع تلك الذات والنفس حاملة اليقينيات عما تحمله إلى شك وظن في لحظات تتسم بالنورانية الحقيقية كشفت أن تلك اليقينيات ما هي إلا رؤية من رؤى الظن والاحتمال كانت تتصف من خلال تلك الذات الشاردة للطهورية الإيمانية أنها يقين لا يمكن أن تقبل النزول عنها ولو في مقابل مواجهة هذا العالم المتسع للبشرية واختلافاتهم! إنها سخرية الزمن.
التحولات التي حدثت في مجتمعنا السعودي لمن كان يحمل فكرًا دينيًا يحمل في عمقه وأصوله جذورًا خطيرة يصفها الصحويون بأنها ضعف وخور ونكوص وردة وانتكاسة عن النهج القويم والطريق المستقيم، وهذا سلاح ماحق وساحق لكل من يُريد أن يراجع يقينياته الفكرية، ويستخدم فكر الصحوة هذا السلاح المعوق لكل من وصل إلى مرحلة وقفة الشكوك والظنون، كي ينظر فيما مضى من زمن وتاريخ وما تخلله من فكر يقيني يُجسد الرأي الأُحادي، تلك الوقفة التي يتبناها الصحويون تُنبئ عن عدم فهمٍ لحقيقة النفس الإنسانية التي تتسم وتتصف بالتحول والتغير في جميع مراحلها التاريخية والزمنية.
فكثير ممن يصل إلى مرحلة الشكوك والظنون في يقينيات الفكر الصحوي بجميع اتجاهاته يترددون في عبور هذه المرحلة بسبب تلك التهم والأوصاف المقززة التي تُرمى على عواهنها وتسبب آثارًا مدمرة لتلك النفس والذات الإنسانية التي تتطلع إلى الانعتاق من قيود تلك اليقينيات، فما أن تُقرر تلك الذات أن تسير في اتجاه عكسي لتلك اليقينيات وتبدأ تُرسخ خطورة ما كانت عليه من مزاعم يُظن أنها بلغت اليقينيات إلا وتبدأ حرب حقيقية للتدمير والإسقاط لكل تهمة ووصف غير لائق وغير أخلاقي، ويُصبح من نشر تلك الظنون والشكوك على تلك اليقينيات هدفًا وغاية لضرب الأمثال والعبر للمريدين وحكاية وقصة للمنتكسين والمرتدين على أعقابهم، وتبدأ خطط المكر بالعزل والتحذير والتوصية بعدم مخالطة تلك الذات التي غيرت نهجها وطريقها وتنكبت ليقينيات الصحويين بشتى مناهجهم وطرائقهم، وإنه من خلال التجارب الحقيقية في هذا المجال فقد تجسدت تلك المحاصرة والعزل للوصول إلى غاية وهدف محو آثار وفكر وتجارب كل من غير الطريقة، والمبادرة إلى محو أي شيء إيجابي في تلك التجارب والأفكار التي كانت تلك النفوس والذوات التي تغيرت تحملها في أعماقها، وكانت تلك النفوس والذوات صاحبة التجارب والأفكار المتغيرة في بداية طريقها قد لامست حقيقة الطهورية الإيمانية فأصبحت راغبة عن كل ما تثيره القوى الصحوية ضدها وآثرت السلامة والانشغال بذواتها لعلمها أن تيارًا قويًا لا قبل لها به ولكي تبتعد عن الملاحقات الأمنية التي لما تنجو منها، وإن تلك الذوات والنفوس التي ثبتت على فكر الاحتمال والنسبية وطرحت فكر اليقينيات كانت قادرة ومستطيعة على منع كثير من الأحداث العظام (سواء كانت أعمال عنف أو أفكار تطرف) التي وقعت في هذه البلاد لو أن التعامل معها كان باحتضانها وتجسيد تجاربها والاستفادة من خبرتها وتأصيل كيفية وصولها إلى تلك المراحل التي كانت نورًا وضياءً لمسيرتها الانعزالية بعد ترك اليقينيات، وإنني آمل أن يتم القضاء على كل فكر يقف حجر عثرة في رجوع شبابنا عن فكر اليقينيات الذي دمر الكثير وأهدر وسوف يهدر الكثير، وآمل أن يتم التوقف عن فكرة الانتكاسة والنكوص عن التدين وذلك لأن كثيرًا من ذلك النكوص ليس رجوعًا عن دين الإسلام بل هو تراجع وتوقف عن الاستمرار في التمسك بتأويل وتفسير الظواهر والواقع باليقينيات.