محمد مصطفى أبو شامة
كاتب وصحافي مصري
TT

الراجل اللي واقف على باب «الكنيف»

يظن ساعي البريد، أنه صاحب كل الخطابات التي يحملها في حقيبته، وأنه يمن عليك عندما يسلمك خطابا جديدا، وان عليك أن تقبل يديه لأنه أوصل لك رسالة كنت تنتظرها على أحر من الجمر، مسقطا من حساباته أنك أصبحت تستخدم بريدك الالكتروني وأن الرسالة قد وصلتك لحظة انتهاء مرسلها من كتابتها، بينما هو لا يزال يفكر في عظمة دوره وقوة تأثيره ويتأمل حقيبته الجلدية البالية بعزة يحسدها عليها رواد الفضاء.
أما موظف البنك فيتخيل أنه صاحب كل الأموال التي تكتظ بها حسابات العملاء، فيتقمص الدور وتكتسي ملامحه بجبروت من يستطيع أن يمنح ويمنع بتوقيعه "الرهيب" على أي ورقة بالية، يجري هذا في عقله وهو شارد في كنوزه بينما تكون قد سحبت كل ما تحتاجه من أموالك ببطاقة الصراف الآلي أو عن طريق الخدمات الالكترونية عبر هاتفك الجوال.
وبين ساعي البريد وموظف البنك، المئات من أصحاب المهن ممن يظنون في أنفسهم أن الكون يدور في فلكهم، وأنهم تحكموا في مصيرك لمجرد أنهم "ترس" صغير في ماكينة الحياة الكبيرة التي يصيرها الخالق بعبقرية مدهشة، جعل التطور فيها آية من آيات كرمه ودليلا يوميا على عظمته، بينما بعض بشره لا يفقهون ولا يتعلمون ولا يتذكرون.
لا أقصد مهنة بذاتها، ولا أقلل من شأن أي عامل في فضاء هذا الكون بحثا عن رزقه في أتساق مع حكمة الخالق وفلسفته للكون، لكني أقصد بشرا بعينهم، فجأة مسهم الجنون، ولمسهم شيء من عظمة لا تليق بهم ولا تحق لهم، عظمة اكتسبوها لمجرد أنهم يقفون أمام باب "المرحاض" أو "الكنيف" ينتظرونك في "غلاسة" وأنت تقضي حاجتك، ويمدون لك أيديهم بالمتاح من "مناديل التواليت" لتمنحهم "المعلوم"، يأخذونه منك كأنه "إتاوة" إجبارية في عجرفة وتكبر لأنهم سمحوا لك بالراحة، وأنعموا عليك بأن تمضي لحظات في "بيت الراحة"، وقد صور لهم خيالهم الفقير أنهم بذلك "يعملون"، وأن وقفتهم المتسولة "عمل شريف" يستحقون عليه أجرا في الدنيا والآخرة.
ربما هي ظاهرة مصرية، لكني لاحظت شبيها لها في أكثر من دولة، ليس بباب "الكنيف" فقط ولكن على كل أبواب الحياة وفي كل بلاد الله، تجد خلف كل باب ما ينتظرك، وأنت ونصيبك.
إلى الواقفين أمام كل "كنيف"، عملكم غير شريف، أفيقوا وابحثوا عن قيمة حقيقية بدلا من التنطع على البشر، أو تراضوا بما قسمه الله لكم وطوروا أداءكم في عمل نافع يخدم الناس، واستمتعوا بجزائه قانعين، مقتنعين بأن ربنا خلقنا فوق بعض طبقات ودرجات، وأنه بقدر ما رزقنا سنحاسب، ليس في الأمر رفاهية تستحق الحسد، ولا تميز يستدعي المساواة.