أحمد الغمراوي
طبيب وصحافي مصري مختص بالشؤون السياسية والعلمية
TT

سامحك الله يا مصر

«أين وصلت الآن؟»، هكذا سألني صديقي المنتظر منذ نحو ساعتين في ضاحية المهندسين بمحافظة الجيزة المصرية، بينما أنا أكاد ألتصق بمقعد السيارة المشلولة على الطريق الدائري الذي يحيط بالعاصمة بعد أكثر من ساعتين مثلهما من انتظار «الفرج».
تحرك الطريق بطيئا.. وأغرقني الملل وألم الجلوس.. ولحسن الحظ كان مكيف السيارة جيدا فلم تؤثر في الحرارة اللاسعة. وبعد أن شارفت على اليأس من الوصول تحركت السيارات التي انحشرت في أكثر من ثمانية صفوف في حارات الطريق الأربع الأصلية.
كانت الحركة بطيئة في البداية؛ ثم بدأت فقرات «السيرك العالمي» في التوالي أمام عيني المنفرجتين رعبا.. أعرف القاهرة جيدا؛ ولطالما جاريت إيقاع القيادة المجنونة في شوارعها حتى قبل عامين حين غادرت إلى لندن.. لكن ما أراه حاليا فاق كل كوابيسي؛ بل وحتى مخيلات صانعي ألعاب العنف الإلكترونية وأشهرها «جي تي إيه».
انطلقت السيارات في رقصة مخبولة بزوايا لا يمكن تصديقها في سرعات مريعة؛ بينما تكاد تتلامس.. تمسكت بطرفي مقعدي وتأكدت من إحكام حزام الأمان؛ الذي ما أظنه سيمنع قدرا في تلك اللحظات، بينما أتمتم سرا بدعاء لأخي الذي يقود السيارة محاولا الهروب من صدمات محققة بإيقاع مواز في حركاته الحادة.
واجهت عرضا سخيا من أخي بالتنازل عن سيارته لي خلال فترة وجودي برفض قاطع.. لم أحضر في إجازة لكي أتعس نفسي بالقيادة في جو لا ينقطع من التوتر.
وصلت إلى موقع صديقي وأنا أتلو الشهادتين، وأكاد أفرغ معدتي، بعد أن انقضى نصف النهار.. وهو أمر كدت أعتاد عليه كروتين يومي.. الأربع وعشرون ساعة لا تكفي إلا لقضاء مشوار واحد.. ومحصلتها النهائية تقتصر على ساعة واحدة من المنفعة، خصوصا مع استمرار حظر التجول الليلي.
وجدت صديقي يحتسي قهوته الثالثة.. ملامح وجهه تغيرت عما تركته منذ عامين.. لا أعتقد أن دخوله في مرحلة الأربعينات من العمر - مثلي - هو سبب التغيير الرئيس. هناك تعب باد، ومسوح من الهم والحزن وربما الاكتئاب.. جلسنا نتحدث، الكلام يخرج من بين شفاهنا إما متحسرا على ما آلت إليه الأمور، وإما متلبسا صورة السخرية المريرة، المؤلمة بأكثر منها مضحكة.
ظننت لوهلة أن صديقي كئيب.. لكنني تذكرت على الفور أن حاله كحال أغلب - إن لم يكن كل - من التقيت خلال الأيام العشرة الماضية.. الكل مهموم، محزون، مكسور.
انقضت نصف إجازتي ولم ألتق بعد ربما 75% ممن رتبت لمقابلتهم.. هاتفي لا يتوقف عن الرنين، أرد لأتلقى وصلات من اللوم والعتاب - وربما بعض السباب - من أصدقاء اتفقت معهم على اللقاء؛ وتأجل لانقضاء اليوم في الزحام.
عدت إلى مصر بعد عامين من الغياب في إجازة قصيرة، تمنيت أن أتمتع في إجازتي بتفريغ نفسي من الهموم والضغوط.. لكنني اكتشفت - حتى الآن - أن جرعة الشحنات السلبية زادت فوق طاقتي.
سامحك الله يا مصر.. أتيت لزيارة الأهل والأصدقاء والأحبة؛ فعاقبتني بالحزن والألم وعتاب الأصحاب.
لا أعرف لماذا تدور في ذهني بلا توقف كلمات أغنية ماجدة الرومي الشهيرة «يا ست الدنيا يا بيروت»، للرائع الراحل العظيم نزار قباني.. مستبدلا الاسم بالقاهرة:
يا بيروت يا ست الدنيا.. يا بيروت
نعترف أمام الله الواحد
أنا كنا منك نغار
وكان جمالك يؤذينا
نعترف الآن
بأنا لم ننصفك ولم نرحمك
بأنا لم نفهمك ولم نعذرك
وأهديناك مكان الوردة سكينا
نعترف أمام الله العادل
بأنا جرحناك وأتعبناك
بأنا أحرقناك وأبكيناك
وحملناك أيا بيروت معاصينا
يا بيروت.