نبيل عمرو
كاتب وسياسي فلسطيني
TT

نتنياهو يفتح معركة القدس!

المفتعل من جانب نتنياهو في معركة القدس الحالية أكثر وضوحًا وحضورًا في المشهد من التلقائي، وكل من يراقب تطورات أي معركة تقع في الأقصى يكتشف بالأدلة القاطعة أن الجانب الإسرائيلي هو من يحركها ويستدرج ردود فعل فلسطينية عليها، وإذا ما قرأنا التاريخ جيدًا فإننا نجد أن معارك القدس والمقدسات كانت الشرارة التي تحرق السهل الذي حولها، فمن حرْق المسجد في عام 1969، إلى المحاولات التي لم تتوقف من قبل المتدينين اليهود الذين غالبًا ما يأتون إلى المسجد تحت حماية الجنود الإسرائيليين، ثم إلى الحدث الأبرز الذي فجر الانتفاضة الثانية حين تعمد شارون زيارة الحرم كما لو أنه صب زيتًا على نار كامنة.
والآن.. اندلعت في الأقصى حرب جديدة، وانتشرت في القدس أعمال عنف اعترف الإسرائيليون بعجزهم عن إنهائها لأنها عمليات تلقائية لا يوجد خلفها جسم تنظيمي محدد.
وإذا ما دققنا في المعالجة الإسرائيلية لما يجري في القدس سواء على صعيد الحرم ومحيطه أو على صعيد المدينة داخل السور وخارجه، فإننا نجد نزوعًا إسرائيليًا رسميًا نحو التصعيد ونبش مصادر النار والعنف، وذلك ينبه إلى حقيقة تتعدى الفعل ورد الفعل، كما تتعدى الترتيبات الأمنية وما تتطلبه من إجراءات محدودة أو واسعة النطاق. فما يحدث يؤكد حقيقة تتصل برئيس الوزراء نتنياهو، الذي لم يعد قادرًا على البقاء في موقعه، إلا إذا أقحم إسرائيل في معركة توفر له استقطاب غالبية الإسرائيليين لمصلحة زعامته كمخلّص من الأخطار وملتزم بالمصالح كما يفهمها المتشددون في إسرائيل والذين يشكلون الأغلبية.
في هذا السياق خاض نتنياهو حربًا تدميرية في غزة، وخاض حروبًا قمعية متقطعة في الضفة، وأدار معركة سياسية شرسة ضد وزير الخارجية الأميركي جون كيري، استمرت سنة، لمجرد أن الرجل تجرأ على فتح ملف الحل السياسي بين إسرائيل والفلسطينيين، ولا ننسى كذلك أم المعارك التي خاضها رئيس الوزراء ضد الإدارة الأميركية بشأن الملف النووي مع إيران، والتي يبدو أنها هدأت بفعل هزيمة نتنياهو ورضاه من الغنيمة بالإياب، وما إن اتضحت مقدمات الهزيمة المحققة أمام إدارة أوباما حتى شرع رئيس الوزراء في البحث عن معركة أخرى، فكانت القدس هي أقرب المرشحين لإطلاق مشهد قتالي يرضي المتشددين ويحرج المعتدلين ويبقيه في موقع المدافع الشرس والمبدئي عن نزوات المتشددين وغزواتهم.
إن نتنياهو يعرف أن معركة القدس التي يخوضها الآن ويصب الزيت على النار فيها لن تظل مجرد إجراء عادي عابر يسيطر على نتائجه بمستوى قمعي معين وبتشريعات شديدة الصرامة، فهو يعرف أنها إن لم تجر إلى انتفاضة الآن فإنها تراكم نارًا تحت رماد لا أحد يعرف بما في ذلك هو متى تشتعل على السطح لتأكل الأخضر واليابس، وهو يعرف كذلك أنه يصيب في العصب العلاقة مع الأردن صاحب الولاية والوصاية على المقدسات في القدس، ويعبث باستقرار هذا البلد الواقف في وجه تحديات عاصفة تهب عليه من كل مكان، ويعرف كذلك أنه على المستوى العالمي مدان بافتعاله هذه الحرب في زمن يحاول العالم كله فيه الخلاص من الحروب الدينية في أكثر من مكان، وها هو نتنياهو يثيرها في أكثر الأماكن حساسية في الشرق الأوسط.
هذه هي بعض أبعاد معركة القدس الراهنة، معركة يشعلها ويطورها رجلٌ يعتبر الحروب هدفًا دون التدقيق في نتائجها، فبالنسبة لنتنياهو.. فالحرب مبررة وضرورية وعادلة ما دامت تخدم بقاءه في السلطة ولو على ركام.