أدرك المخططون الأميركيون أثناء الحرب العالمية الثانية أن بلادهم ستخرج من الحرب بقوة طاغية تؤهلها للسيطرة على العالم، وكان الرئيس روزفلت يتطلع إلى هيمنة الولايات المتحدة في عالم ما بعد الحرب، وتم تنفيذ الخطط، وتضاعفت القدرة الصناعية الأميركية 4 مرات.
وفي عام 1970، تراجعت حصة أميركا من ثروة العالم إلى حوالي 25 في المائة، لأن هناك عالماً صناعياً قادماً في طريقه نحو قطبية ثلاثية، أوروبا وآسيا ثم اليابان مع أمريكا نفسها، وبعد 20 عاماً انهار الاتحاد السوفياتي، وبقيت سياستها على حالها من دون تغيير، على رغم اختلاف الحجج والوسائل، حتى أصبحت القوة العظمى، ومضت قدماً من دون عوائق.
وقال صمويل هنتنغتون، رئيس الجمعية الأميركية للعلوم السياسية: «بعد تسلم جورج بوش الابن مقاليد السلطة تصاعد الرأي المعادي لأميركا في العالم العربي»، وبخاصة بعد كذبة أسلحة الدمار الشامل في العراق، فكانت بداية الأفول والتراجع، وتضاءل المؤيدين، وطال أيضاً من بعده باراك أوباما، وخسرت الولايات المتحدة شعبيتها ومكانتها عند أميركا الجنوبية والشرق الأوسط.
والمعلوم أن السياسات الأميركية ثابتة، باستثناء بعض التعديلات، لعلنا نذكر هنا بعض الأهداف والأولويات لكل من إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب، وإدارة الرئيس الحالي جو بايدن، فإنها تتقاطع عند 3 محاور، أهمها في منطقة الشرق الأوسط، برامج إيران التي تزعزع الاستقرار في المنطقة، ومن بينها البرنامج النووي، وتأمين إسرائيل وتعزيز السلام بين العرب وإسرائيل، وإنهاء الحروب في اليمن وليبيا، وتعزيز وضع حقوق الإنسان.
في حين أنها الدولة الأكثر قوة في العالم، باتت عاجزة أكثر فأكثر عن فرض إرادتها، بعد تخبطات سياسية أصبحت على إثرها توجهاتها غير مفهومة، فتناقضات إدارة بايدن جعلت البيت الأبيض يواجه انتقادات كبيرة مع دعواته المستمرة إلى مزيد من إنتاج النفط من قِبل منظمة «أوبك»، في الوقت الذي يضع فيه العراقيل أمام الإنتاج الأميركي، إذ قال كيفن مكارثي، في تغريدة عبر «تويتر»: «كان من الممكن أن تكون الولايات المتحدة أكثر استقلالية في مجال الطاقة ومع العمّال الأميركيين... لكن بايدن يفضّل أن يضع أميركا في المرتبة الأخيرة».
وعلى صعيد آخر، تأتي الصين في سلسلة التناقضات التي لا تنتهي لإدارة بايدن في سياستها، تارة تعاديها، وتارة أخرى ترسل وزير خارجيتها لزيارة بكين، ثم يعود الرئيس بايدن يصف الرئيس الصيني بالديكتاتور. تفاصيل دقيقة تخوض عميقاً، تضرب فيها الفوضى أطنابها أكثر فأكثر، تقود الى أفق ضبابي كئيب.
وفي أثناء حديث للرئيس الأميركي عن الديمقراطية والاستبداد، قسّم دول العالم إلى ديمقراطية ومستبدّة، أما المستبدّة فهي الدول التي لا تقبل بقيادة الولايات المتحدة، وترفض الانصياع لنظامها الدولي، وهي الصين وروسيا وحلفاؤهما، وأما الديمقراطية فهي الدول التي تقبل بزعامة الولايات المتحدة ونظامها الدولي، بغض النظر عن مدى التزام هذه الدول بالقيم الديمقراطية.
تتجلى إحدى عواقب هذه السياسة بتولي مزيد من الاهتمام للصراع المحتمل مع الصين، وتجاهل الأزمة في أوكرانيا، بعد أن تعاظم شأنها باستمرار الحرب، واهتزاز الثقة بأميركا من قبل حلفائها. وهذا سيضر بها ويعزلها عن العالم خلال العقود المقبلة، وتخسر بذلك مكانتها الدولية، فالإمبراطوريات تضعف بسبب أخطاء تراها بسيطة، لكنها تؤسس لوهن وعجز سيظهران تدريجياً على صورتها داخلياً وخارجياً.