لم نسمع من قبل أن ملكاً أو رئيساً أو أميراً عربياً احتفظ في منزله بوثائق حساسة وسرية وخطيرة؛ سواء خلال فترة حكمه أو بعدها. ففي العراق –مثلاً– كانت معظم الوثائق السرية الأمنية والعسكرية والقضائية، وحتى التجسسية، تحيلها رئاسة الجمهورية إلى جهاز المخابرات العامة، وهنا تتم إحالتها إلى الجهة الأمنية المعنية في الجهاز. وأعتقد أن هذا معمول به في كل الدول. أما أن يأخذ رئيس الدولة حقيبة وثائق معه إلى منزله يومياً للاحتفاظ بها، فهذا أمر فيه من الهزل أكثر من الجِدّ.
وكان جهاز المخابرات العراقي في النظام السابق واحداً من أقوى الأجهزة في المنطقة العربية ودول العالم الثالث. وهو -عربياً- كان يلي جهاز المخابرات المصرية في الاحتراف والعلاقات العامة، خصوصاً أن مصر على تماس مع جهاز «الموساد» الإسرائيلي بشكل غير مباشر وحذر ومحدود، منذ ولاية الرئيس الراحل أنور السادات واتفاقيات السلام.
ومرَّت فترة قصيرة استفاد فيها جهاز المخابرات العراقي من علاقاته السياسية مع كوبا في عهد فيديل كاسترو، ثم علاقاته مع الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو شافيز، لفهم التعامل السياسي والأمني مع الولايات المتحدة الأميركية. لكن أوراق ووثائق ونصوص المحادثات والمراسلات كانت تذهب أولاً بأول إلى رئاسة المخابرات العراقية، ولا يحتفظ بها الرئيس العراقي في منزله أو مكتبه في القصر الجمهوري، بعكس ما كان يجري في الولايات المتحدة الأميركية؛ ليس في عهد الرئيس السابق دونالد ترمب فقط، وإنما في عهود معظم الرؤساء الأميركيين الذين يحتفظون بهذه الوثائق، للاستفادة منها في كتب المذكرات بعد انتهاء فترات حكمهم، وهي تدرّ عليهم ملايين الدولارات؛ سواء في المذكرات المطبوعة أو المحاضرات الخاصة أو العامة أو الجامعية.
ومن هؤلاء الرئيس ريتشارد نيكسون الذي أصدر مذكراته في عام 1994، تحت عنوان «الحرب الحقيقية». وبوش الأب أصدر مذكراته بعنوان «قرارات مصيرية». وأوباما أصدر مذكراته تحت عنوان إسرائيلي مزور: «أرض الميعاد»، وهي أسوأ مذكرات لرئيس أميركي. ومذكرات بيل كلينتون «حياتي» 2004، وقلدته زوجته وزيرة الخارجية في عهد أوباما، هيلاري كلينتون، بمذكراتها: «خيارات صعبة». وبالمناسبة اهتمت وثائق الرئيس كلينتون الأولى بدور إيران في دعم الإرهاب الدولي. أما مذكرات جيمي كارتر فهي تحت عنوان: «الإبقاء على الإيمان»، ومذكرات بوش الابن صدرت تحت عنوان «تحوّل العالم»، ولا أعرف لماذا لم يختر عنوان كذبته الكبيرة بعد احتلال العراق: «انتهت المهمة»؛ لأن العالم كله يعلم أن مهمة بوش لم تنتهِ منذ 2003 حتى اليوم.
كلهم احتفظوا بوثائق حساسة وبالغة السرية بعد انتهاء فترات توليهم الرئاسة؛ لكن أحداً لم يحاسبهم أو يحاكمهم مثلما يفعلون اليوم مع دونالد ترمب؛ ليس حرصاً على أسرار الدولة، ولكن لكيلا يرشح نفسه في الانتخابات الرئاسية المقبلة.
في الواقع، أكثر الناس الذين يؤيدون عودة ترمب إلى الرئاسة هم العراقيون الذين انتقم لهم ترمب من قاسم سليماني الذي حوّل العراق إلى محافظة إيرانية، تصول وتجول فيها ميليشيات «فيلق القدس».
نعود إلى أصل الحكاية: ما نشرته صحيفة «واشنطن بوست» في أبريل (نيسان) الماضي، عن إثارة موضوع مضامين وثائق «البنتاغون» المُسربة، ويخص بعضها كوريا الجنوبية وإسرائيل وأوكرانيا والعراق. وتشير إحدى الوثائق إلى أن الحرب الأوكرانية ليست حرباً بالوكالة بين الولايات المتحدة وروسيا.
وترى الصحيفة أن بعض الاختصاصيين في مجال البيانات السرية، أكدوا أن المعتاد إقدام الحكومة الأميركية على المبالغة في مدى الضرر المزعوم عن تسرب وثائق سرية في متناول الشارع. وأشاروا إلى 3 حوادث: أولها تسريب وثائق عسكرية سرية عن الحرب الأميركية على فيتنام، والثانية انخراط الأجهزة الأمنية في التجسس على مواطنين أميركيين، والثالثة أسرار مجزرة أميركية ضد صحافيين ومدنيين عراقيين في بغداد، عن سبق إصرار وترصد.
الحديث في البيت الأبيض منذ شهور، عن 3 ممن شغلوا مناصب قيادية في حكومة الولايات المتحدة، وأساءوا التعامل مع وثائق مصنفة على إنها سرية وتم تسريبها. وذكرت الإذاعة البريطانية أن هؤلاء الثلاثة هم: دونالد ترمب، وجو بايدن، ومايك بنس، نائب الرئيس السابق. ويقال إن حالة ترمب هي الأسوأ قضائياً؛ لأنه يواجه 7 تهم تتعلق بوثائق تم العثور عليها في منزله بفلوريدا.
وبموجب قانون السجلات الرئاسية، من المفترض أن يتم نقل سجلات البيت الأبيض إلى الأرشيف الوطني، بمجرد انتهاء فترة ولاية الرئيس. ويواجه ترمب لائحة اتهام في 7 جرائم، بينها إساءة التعامل مع وثائق مصنفة على أنها سرية، فضلاً عما قيل عن عرقلة سير العدالة، وهي تهمة لم تثبت. إلا أن اللافت للنظر أنه تم العثور على أكثر من 325 ملفاً سرياً، بينها ما هو سري للغاية في منتجع ترمب بفلوريدا.
وقد ينجو الرئيس بايدن من أي تهمة؛ لأن الوثائق التي احتفظ بها كانت في مكتبه الرسمي، وتضم معلومات حساسة وسرية عن أوكرانيا وإيران وبريطانيا.
الغريب أن المخابرات المركزية الأميركية (سي آي أيه) تبدو بعيدة عن الاحتفاظ بالوثائق السرية الحساسة «التي تُفتح بالذات»، كما اعتدنا في عالمنا العربي، ولذلك فإن الحكومات العربية نادراً ما تَفقد وثيقة سرية وحساسة. وكل ما هو عكس ذلك تم في حرب احتلال العراق، وتغيير الأنظمة في ليبيا وتونس ولبنان واليمن، إلا أن النظام السوري كان حريصاً خلال الحرب الأهلية على عدم إفلات سرية وثائق الدولة العليا، بينما أسرار ووثائق النظام العراقي الحالي توزع على «فيسبوك» و«واتساب» و«تويتر».