اتسع شريان الدم في السودان من شهر إلى آخر، منذ شهر أبريل الماضي (نيسان)، وذكرت تقارير صحافية أن أرقام القتلى والجرحى من جنود الطرفين المتحاربين وصلت إلى آلاف عدة، بالإضافة إلى المدنيين الذين لقوا حتفهم في منازلهم والشوارع، خلال عمليات القصف المتبادل.
وقرأنا وسمعنا عن وساطات متعددة أفريقية وعربية، لكن البرهان وحميدتي قالا إن الاتصالات لم تفلح في إقناع الجانبين بالعودة إلى المفاوضات، للسيطرة على الخسائر البشرية والمادية الكبيرة.
الأمر المحيِّر أن إسرائيل دخلت على المسار الساخن، بدعوة من الجنرالين؛ البرهان وحميدتي، بعد أن نقلت رسائل «تهدئة» وتوسط بين الرجلين! حتى مجموعة «فاغنر» الروسية حاولت وقف الحرب دون جدوى، علماً بأن يفغيني بريغوجين، رئيس هذه المجموعة، سبق أن حصل على وسام الجمهورية السوداني من الرئيس المعزول عمر البشير، ثم أنعم عليه عبد الفتاح البرهان بوسام النيلين في عام 2020.
ويوماً بعد آخر تتراجع الوساطات، وتمتد قوافل اللاجئين السودانيين بالآلاف المؤلفة إلى خارج الحدود، في الوقت الذي تُعلَن فيه هدنة وراء أخرى، ثم تستمر المواجهة من جديد.
كل قلوب الشعب العربي مع الشعب السوداني الشقيق الذي يخرج من انقلاب إلى آخر، ومن حرب أهلية إلى أخرى، ومن مأزق إلى آخر، دون أي بصيص أمل لانفراجة سلام طويلة.
كلنا نتساءل: هل فشل «الاتحاد الأفريقي» الحكيم في حل الأزمة السودانية؟ وقبل «الاتحاد الأفريقي» لماذا لم تنجح «جامعة الدول العربية» في وقف القتال الدامي؟
في كل يوم تتفاقم أزمة نزوح السودانيين الفقراء مع أطفالهم ومتاعهم المحدود شمالاً وجنوباً بلا انقطاع. وقد تابعت الصحف العالمية والعربية مأساة الشعب السوداني والمصير المجهول في ظل الحرب، سواء في محاولات النجاة من القذائف العنيفة التي دمرت منازل وقتلت تلاميذ مدارس، أو ندرة الملاجئ وتوقف المستشفيات عن العمل بسبب القذائف العمياء والاشتباكات بغير حدود أو سقوف.
لم نعد نستطيع حصد عدد الهُدَن هنا أو هناك، أو مرات خرقها وإلغائها. لقد قرأنا أن الجيش السوداني علَّق محاولات الهدنة، بدلاً من تعليق الحرب. وقيل إن الجنرال عبد الفتاح البرهان لوح بما سماه «القوة المميتة» لمواجهة «الدعم السريع»، بدلاً من أن يلوح بأعلام السلام والهدنة والمصالحة.
وماذا عن الاستثمارات الدولية والأفريقية والعربية في السودان؟ لقد هربت الاستثمارات من هذه الحرب التي لا يُعرَف متى وكيف تنتهي.
حتى الأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش حذّر من حرب سودانية «تبتلع المنطقة». ووزير الخارجية الأميركية بلينكن قلِق للغاية من القتال في السودان. لقد تعطل كل شيء، بغلق المطارات والطرق البرية والمعابر، ولولا المملكة العربية السعودية ومصر لما استطاع النازحون واللاجئون السودانيون والأجانب النجاة من الحرب التي لا يعرفون متى تبدأ كل يوم، ولا متى تتوقف.
قرأت أن مستشفيات الخرطوم تحولت إلى «مدافن مفتوحة»، وأطباء قالوا إن رائحة الجثث تعمّ كل مكان، وأزيز الرصاص في كل شارع.
وأعلنت دول جوار السودان توازناً سياسياً وتأهباً أمنياً بسبب ازدياد الضحايا مع تجدد القتال بين الجيش و«الدعم السريع»، بعد كل هدنة. ولم تجد منظمات دولية، مثل «أطباء بلا حدود»، و«الهيئة الطبية الدولية»، و«منظمة إنقاذ الطفولة»، وعمال إغاثة من «منظمة الأمم المتحدة»، ما تقوله لصحيفة «نيويورك تايمز»، غير أن الأزمة التي تؤثر على النساء والحوامل تمثل رمزاً لانهيار نظام الصحة العامة في جميع أنحاء السودان، منذ بدء القتال وإغلاق المستشفيات والعيادات. والأخطر من كل هذا أن «الهيئة الطبية الدولية» تقول: «هذا الأمر سوف يزداد سوءاً، والمواليد الجدد عرضة للإصابة بعيوب وأمراض تستمر طوال حياتهم، بما في ذلك الإعاقات الذهنية، والشلل الدماغي، وضعف السمع والبصر».
وإذا استمر عناد الجانبين فإن التاريخ لن يرحمهما، بعد أن يتوفى ألوف الأطفال وأمهاتهم.
لقد هزّ عنوان كبير في إحدى صفحات جريدة «الشرق الأوسط» الضمائر وهو يعلن أن «الموت على الأرض أو في الشوارع... الولادة وسط الحرب في السودان»، وروت الصحيفة معاناة سيدة حامل في (أم درمان)، شمال العاصمة الخرطوم؛ لعدم وجود سيارات إسعاف، واضطروا لنقلها على دراجة نارية لتصل إلى عيادة طبية حيث وضعت ابنتها. وهناك في السودان أكثر من مليون سيدة حامل معرَّضة للموت، إذا لم يتوقف إطلاق النيران والقذائف في أسرع وقت ممكن.
يشاء القدر أن نستعين بعنوان رواية الأديب السوداني الراحل الطيب صالح «موسم الهجرة إلى الشمال»، لنحوِّله إلى «موسم الهجرة من السودان»، بعد أن هاجر ملايين اللاجئين إلى خارج بلدهم، بسبب حرب لا معنى لها.