د. ياسر عبد العزيز
TT

نشر الجرائم... والتوازن المفقود

استمع إلى المقالة

ثمة عديد من الأسباب التي تُكسب الإعلام أهميته الكبرى والجوهرية في حياتنا، ومن بين تلك الأسباب ما يتعلمه طُلاب الصحافة في المؤسسات التعليمية عن «القيم الخبرية»، التي تقف وراء عملنا في نشر الأخبار والصور والفيديوهات؛ وعلى رأسها بالطبع ما يتعلق بالإخبار، والتثقيف، وصولاً إلى الترفيه. وبينما يسهل جداً، حتى لغير المتخصصين، أن يدركوا الدوافع الكامنة وراء نشر إفادة مكتوبة أو مرئية أو مسموعة على الناس، عبر الوسائط الرائجة، فإن هناك دافعاً مُهماً يظل دوماً مغبوناً؛ إذ لا تُدرك أهميته إلا في أحوال خاصة ودقيقة.

الدافع المقصود هنا ليس سوى «التوثيق»؛ ذلك أن نشر المواد الإعلامية ينطوي على أهمية كبرى تتمثل في القدرة على توثيقها، وبالتالي إتاحتها للجمهور العادي، أو الجهات الرسمية، أو أصحاب المصالح، عند طلبها للتدليل على صحة واقعة، أو إثبات اتهام، أو نفي مخالفة أو جريمة.

وعندما نتفق جميعاً على أهمية نشر الإفادات التي ترد إلى منصات الإعلام كلها من دون أي استثناء أو إجراء تغييرات عليها، فإننا نكون قد منحنا دافع «التوثيق» الزخم الكامل والأهمية الفائقة، ونكون قد أتحنا لكل صاحب مصلحة فرصة استخدام المنشور لإنفاذ حجته، أو إقامة دليله، أو تحريك قضيته. لكننا حين نفعل ذلك، بكل أريحية ومن دون تدخلات، سنكون قد انتهكنا حقوقاً أخرى، وتجاوزنا قواعد مرعية في العمل الصحافي؛ ومن بينها مراعاة الحالة النفسية للمتلقي، واتقاء إيقاع الضرر بالفئات الأضعف، والمساس بكرامة أبطال المشاهد والأخبار، أو تعميق جراح ذويهم، خصوصاً عندما تكون تلك المشاهد مؤلمة، أو تشرح حوادث أو وقائع صادمة أو انتهاكات مؤذية.

في عام 2009، طفت تلك المعضلة على السطح في أوج ازدهار شبكة «الإنترنت»، حينما لجأ خريجٌ جامعي بريطاني إلى الهيئة الضابطة البريطانية المعنية بضبط العمل الإعلامي (أوفكوم)، طالباً إزالة أخبار تتعلق بوجوده في موقع حادث جنائي، بعدما ثبتت لاحقاً براءته من أي جرم بخصوصه، بينما ظلت كل محاولة للبحث عن اسمه على محركات البحث الشهيرة تُظهر هذه الإفادات، التي قللت من فرصه في الحصول على عمل.

وبعد هذه الواقعة بنحو خمس سنوات، أصدرت محكمة العدل الدولية قراراً يتيح للأشخاص مطالبة محركات البحث الكبرى بحذف معلومات تخصهم، إذا ثبت أنها تؤثر في مكانتهم ونظرة الناس إليهم. وهو حكم أكدته محكمة إيطالية لاحقاً في 2016، حين قضت بإلزام مزوّدي خدمات «الإنترنت» بحذف شريط مُسرب يصور علاقة جنسية لسيدة تُدعى تيزيانا كانتوني، بعدما قالت إنه «يشعرها بالعار».

وعلى مدى السنوات السبع الفائتة، لم تتوقف المحاكم الأوروبية والأميركية عن نظر قضايا تتعلق بحق الأفراد أو الجهات المختلفة في المطالبة بحذف بيانات أو إفادات «غير مرغوب فيها» من شبكة «الإنترنت»، بداعي أنها تُشكل لهم أضراراً، أو تحكي وقائع مؤذية لهم على الصعيد الإنساني.

إن تلك القضايا تتكرر في مجتمعات عديدة باطراد، ومع ازدهار أنشطة التصوير والبث عبر الوسائط الجديدة، تتزايد أهميتها، وهي لا تتصل فقط بالدوافع الشخصية لأفراد ساقهم الحظ إلى الوجود تحت عدسة التصوير في «الأماكن الخطأ»، لكنها تتصل أيضاً بالأعمال الجنائية وجرائم الحرب؛ فقد اشتكت وسائل إعلام عالمية كبرى أخيراً من أنها تخفق أحياناً في تحميل صور أو فيديوهات تتعلق بحوادث «إجرامية»؛ إثر قيام شركات التكنولوجيا المُشغلة لوسائط «التواصل الاجتماعي» بحذفها، تجاوباً مع شروط الاستخدام التي تُحجّم نشر المشاهد «المؤذية».

وفي هذا الصدد، لم يكن بالإمكان تحميل فيديوهات وصور كثيرة توثّق الهجمات على المدنيين في الحرب الروسية - الأوكرانية، أو جرائم تعذيب بعض المهاجرين بالطرق غير المشروعة، أو مشاهد القتال المروّعة بين المتقاتلين في حروب عدة عبر العالم.

تقول المنصات الكبرى؛ ومنها «ميتا» و«يوتيوب»، إنها تسعى إلى خلق توازن بين واجباتها في توثيق الأحداث المهمة من جانب، وبين التزاماتها تجاه حماية المستخدمين من المحتوى المؤذي من جانب آخر. لكن تفويض آليات «الذكاء الاصطناعي» في القيام بهذه المهمة يخلق كثيراً من الخروقات، ويُصَعّب إدراك التوازن المرجو؛ إذ تمعن هذه الآليات في الحذف، امتثالاً للقواعد المُجردة التي تعمل من خلالها.

ولكي تنجح الشركات القائمة على عمل منصات «التواصل الاجتماعي» في إدراك هذا التوازن المأمول، فإنها مطالبة بإيجاد طرق أكثر نجاعة، تُمكّن من توثيق المشاهد التي يمكن أن تقيم أدلة أو تكشف جرائم، من دون أن تؤذي المشاهدين، وتعرّض كرامة أبطالها للانتهاك.