بعد غزو أوكرانيا، يصور «الغرب السياسي» (الذي يشمل بالطبع دولاً آسيوية) الصراع بينه وبين روسيا، على أنه صراع بين الديمقراطية والليبرالية ضد الأوتوقراطية ورأسمالية الدولة المحسوبية. هذا صحيح تماماً، ولكن! هذا الغرب الديمقراطي يصاب بالدهشة لأن دول «الجنوب الديمقراطي» لم تصطف رتلاً من خلفه؟ فثمة دول ديمقراطية كبرى في الجنوب السياسي مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا يجمعها عدم التوافق مع موقف الديمقراطيات الغربية من الغزو. فلماذا هذا التناقض؟ لا يمكن لدولة أن تنكر حق أوكرانيا الراسخ في القانون الدولي في السيادة على قراراتها من دون أن يفرض عليها جيرانها «الكبار» هيمنتهم.
إذ تشكل مبادئ القانون الدولي والقواعد المؤسسة للنظام العالمي الراهن ضمانة لأمن الدول الصغيرة قبل الكبيرة. نعم لا يمكن «للديمقراطيات الجنوبية» إلا أن تتعاطف مع الشعب الأوكراني! فكل العالم (إلا «من تلوثت أيديهم») يقف موضوعياً ضد غطرسة القوة الروسية.
لكن هذا الجنوب الديمقراطي يعترض على أن يكون الغرب السياسي والمنحاز هو القاضي! وأن يكون هو المعيار للاستقامة والنزاهة. إنه يعترض على نفعية وانتهازية القاضي طوال تاريخ إدارته للوضع الدولي، بدءاً من الجرائم التي ارتكبها أو تواطأ فيها، بالتغاضي عن البرامج النووية للدول المناصرة له من جنوب أفريقيا، وصولاً لإسرائيل، ثم بعد ذلك الحرب على أفغانستان، ثم إلى أم الجرائم في العراق، ثم ليبيا ثم سوريا. بذلك يتجلى نفاق «الكبار».
نعم! فمنذ يالطا وما بعدها، توافق الغرب السياسي الديمقراطي مع الدول الاستبدادية الكبيرة على إدارة ما عدّوه عملياً، حضيض العالم في «الجنوب السياسي». وحين انهار الاتحاد السوفياتي واتفاقات يالطا تفرّد الغرب السياسي بأفغانستان، والعراق. وكل ذلك جرى ضد القانون الدولي، وفي سياق يمتد من مجلس الأمن الدولي وصولاً للمحكمة الدولية التي، ويا للعجب! سرعان ما تتذكر جرائم بوتين، وتنسى ملف اغتيال الحريري.
وعندما تضاربت مصالح الغرب مع روسيا، سرعان ما تحول الغرب إلى مُدافع أشمّ عن النظام الدولي ضد روسيا؛ لذلك، وليعذرنا الغرب الديمقراطي، إن كانت ديمقراطيات الجنوب تسخر من كل قلبها من ضعف ذاكرة الغرب، ومن سيرة أن الغرب يؤسس لمبادئ العلاقات الدولية.
تعد الكثير من تقارير وزارة الخارجية الأميركية مركز Freedom House الأمريكي، مرجعاً في تقييمها لحال الدول الديمقراطية في العالم. وليس من الصعب أن نلاحظ أنه بناءً على تقارير هذا المركز، زودت وتزود، بل دعمت وتدعم الولايات المتحدة لعقود 35 دولة من أصل 50 دولة يعدها هذا المركز دولاً استبدادية.
أكثر من ذلك، يسمح عصر التواصل الاجتماعي الكوني لأبناء الجنوب بذات القدر من السخرية من ادعاء الغرب السياسي بكمال ديمقراطيته. فبدءاً من الانقسام العرقي في أميركا، وصولاً لموقف بعض الدول الأوروبية من المهاجرين والأقليات.... إلخ، يبهت ادعاء الغرب السياسي بالكمال.
لا يمنع كل ذلك أن يعجب العالم بأسره بعظمة البنيان الديمقراطي والمبادئ التي تأسست عليها الحضارة الراهنة، التي شكّل الغرب السياسي حاضنتها. بل يعجب أهل الجنوب بعظمة الآباء المؤسسين الذين كتبوا هذه الوثيقة التاريخية للدستور الأميركي. ولا يمنع ذلك أيضاً الإعجاب الموضوعي بما يملك الغرب من ثروات ثقافية وعلمية هائلة. لكن أهل الجنوب بالمقابل حساسون لأبعد الحدود من حديث الغرب السياسي عن تفوق معاييره الأخلاقية.
لكن ذلك لا يخفف من الاشمئزاز من ادعاء التفوق الأخلاقي، في حين لم توقع الولايات المتحدة على الكثير من الوثائق المعيارية المؤسسة للقانون الدولي بما فيها محكمة الجنايات الدولية، يجب ألا تتوقع الولايات المتحدة فجأة أن تتقبل دول العالم مجاناً، وبرحابة الصدر زعامتها الأخلاقية.
تشكل النظام الدولي الراهن بعد التجربة المريرة لعصبة الأمم، وعلى أشلاء الحرب العالمية الثانية. وخضع تشكيل مجلس الأمن لشروط المنتصرين في اتفاقيات يالطا التي وضعت قواعد غير مكتوبة يحكمها «الكبار»، وتدفع ثمنها دول الجنوب. فلقد تركت مناطق الثروات والموارد الأولية مثل الشرق الأوسط وأفريقيا وكشمير وجنوب شرقي آسيا خارج محرمات يالطا، لتصبح ساحة مفتوحة لحروب وصراعات يديرها هذا النظام الدولي من خلال لعبة الفيتو. ولتتحول هذه البلدان حروباً تلتهب دورياً كالجمر تحت الرمال.
تارة يتذرع الغرب السياسي بأنه لا يريد أن يكون «شرطي العالم»، بل إنه المصلحة القومية البحتة، وتارة «يتسلبط» هذا الغرب السياسي على النظام الدولي، ويطالب العالم بالوقوف إلى جانبه.
في هذا النظام العالمي تتصرف الدول التي تعد مسؤولة عن الأمن العالمي بأقصى درجات اللامسؤولية، لتصبح لعبة الفيتو في مجلس الأمن أكبر مصدر لاستدامة الحروب وتهديد السلام.
في حين أن الدول التي تستبعد من منظومة الفيتو في مجلس الأمن، تجد نفسها في مقدمة المدافعين عن القانون الدولي في سعيها لدرء مخاطر الكبار، وتوافقاتهم غير المسؤولة والمسببة للفوضى الراهنة في العلاقات الدولية.
لا ينقسم العالم عمودياً ما بين دول ديمقراطية ليبرالية ودول شمولية واستبدادية فحسب، بل ينقسم أفقياً أيضاً بين دول غاشمة كبرى تجر العالم بأسره نحو الحروب، ودول في الجنوب تدفع ثمن اللانظام واللاأمن الدولي.
ومع تقَطّع العولمة، ودخول عالمنا مرحلة تعدد الأقطاب، تحتل الدول الديمقراطية الكبرى في الجنوب مثل الهند وجنوب أفريقيا والبرازيل... وغيرها موقعاً متميزاً في الدفاع عن السلم الدولي، وتتشارك جميعاً بتمسكها بالقانون الدولي وبإدانتها الغزو الروسي لأوكرانيا، لكنها في الوقت ذاته ترفض محض الغرب السياسي براءة القاضي من جديد.
أمام هذه المخاطر التي تضع العالم بعبثية على حافة الحرب النووية، لا بد من إيقاف شطط لعبة الكبار! لتصبح إعادة النظر في منطق وبنية مجلس الأمن ركناً أساسياً من أجل إعادة بناء السلم الدولي.