سليمان جودة
رئيس تحرير صحيفة «الوفد» السابق. كاتب العمود اليومي «خط أحمر» في صحيفة «المصري اليوم» منذ صدورها في 2004. عضو هيئة التحكيم في «جائزة البحرين للصحافة». حاصل على خمس جوائز في الصحافة؛ من بينها: «جائزة مصطفى أمين». أصدر سبعة كتب؛ من بينها: «شيء لا نراه» عن فكرة الأمل في حياة الإنسان، و«غضب الشيخ» عن فكرة الخرافة في حياة الإنسان أيضاً.
TT

نظرية لأرسطو تشرح بنداً في ميزانية المملكة

استمع إلى المقالة

تستوقفني الأرقام لأنها لغة لا تكذب ولا تتجمل، ولأنها تقول الحقيقة مجردة كما هي بغير رتوش، وتشدني لغة الصور بالتوازي لأن كليات الإعلام تقول لطلابها إن الصورة بألف كلمة.

وعندما أصدر إحسان عبد القدوس روايته «أنا لا أكذب ولكني أتجمل» كان يرغب في أن يقول شيئاً من هذا المعنى، وكانت الرواية عند ظهورها على الشاشة تعزز المعنى وترسخه.

ولا نكاد نذكر شيئاً يتبقى من حرب ڤيتنام سوى تلك الصورة الشهيرة، التي تصور فتاة فيتنامية وهي تهرب من الحرب عاريةً مذعورة، وقد عاشت الصورة من يومها بيننا وسوف تظل تعيش، والذين يعيدون نشرها من وقت إلى آخر لا يحتاجون إلى إضافة كلمات كثيرة تعبر عما فيها ولا عن محتواها، ولكن يكفيهم أن يقولوا إن هذه صورة من حرب ڤيتنام الشهيرة، وإن هذا هو المحتوى الظاهر فيها.

وفي سياق كهذا بين معنى الصورة ومعنى الرقم، توقفت أمام ما أعلنته وزارة المالية السعودية في السابع من هذا الشهر عن رقم محدد في ميزانية المملكة.

الرقم يقول إن الإيرادات غير النفطية في الميزانية خلال الأشهر الثلاثة الأولى من هذه السنة بلغت 27 ملياراً و200 مليون دولار، وإن الزيادة في هذه الإيرادات بالقياس على الفترة ذاتها من السنة الماضية تصل إلى 9 في المائة.

والرقم مع النسبة ينطويان على الكثير من المعاني، رغم أنه رقم جامد لا حياة فيه، ورغم أنها نسبة جامدة أيضاً لا تجري دماءٌ في شرايينها.

من بين المعاني أن قراراً في المملكة جرى اتخاذه بتنويع مصادر الدخل العام، وأن البلد لا يجب أن يبقى بلداً نفطياً خالصاً في مصادر دخله، وأن تميز البلد في النفط، إنتاجاً وتصديراً، لا يعني أن يظل يعتمد على ذلك أو يراهن عليه من دون سواه، فالنفط رغم جاذبيته مصدر للدخل في أي بلد يظل يدعو الذين يخرجُ من أرضهم، إلى أن يكونوا أكثر حذراً في الاعتماد عليه وحده عند رسم خريطة الاقتصاد في المستقبل.

إننا نفهم من أهل الجيولوجيا أن النفط ثروة ناضبة بقدر ما هي مغرية، والسبب أنها تبقى مرشحة للنفاد مهما كانت كمياتها غير المحدودة في باطن الأرض.

ومن سنين سمعت من الدكتور عبد القادر حاتم، وزير السياحة في مصر في الستينات من القرن الماضي، أنه لما سأل واحداً من خبراء السياحة الألمان عما يجب أن تفعله القاهرة لتعظيم دخلها من السياحة، كانت إجابة الخبير الألماني من كلمتين اثنتين هما: «بيعوا الشمس!».

وللوهلة الأولى أدهشت الإجابة الدكتور حاتم، ولم يعرف في لحظتها كيف يمكن لبلد أن يبيع الشمس لكل سائح يزور أرضه أو شواطئه؟!... ولكنه انتبه إلى ما يقصده الخواجة الألماني، الذي كان يلفت انتباه وزير السياحة إلى أن الشمس ثروة بالنسبة إلى كل بلد تشرق عليه، وأن هذه الثروة يمكن أن تباع للسياح، وأنها يمكن أن تظل تباع بغير توقف من هنا إلى يوم القيامة.

فالدفء الذي ترسله ليس فقط ثروة، ولكنه ثروة غير ناضبة، لأنها باقية ما بقي تعاقب الليل من وراء النهار، ومن هنا إلى يوم الدين.

ولأن ثروة النفط على العكس من هذه الثروة الشمسية، فإن ثروته سوف يأتي عليها يوم تنضب فيه، ولأنها كذلك فإن على الذين أسعدهم الحظ بوجوده في أرضهم، أن يجعلوا رهانهم عليه رهاناً محسوباً بالورقة والقلم، وأن يضعوا إلى جواره ثروات أخرى سواه، وأن تكون هذه الثروات من النوع غير الناضب، الذي لا ينتهي ولا ينفد ولا يأتي عليه يوم يختفي فيه.

وهذا ما تستطيع أن تقرأه في الرقم المعلن عن وزارة المالية، لأنه رقم يفرق بين إيرادات الثروة الناضبة في الميزانية، وبين إيرادات الثروة غير الناضبة، وفي المقدمة منها بالطبع إيرادات السياحة التي تقول مؤشراتها إنها مرشحة للزيادة، وهذا ما تقوله نسبة التسعة في المائة.

ومن بين المعاني في الزيادة المعلنة، ثم في نسبتها عند المقارنة بين عام وعام، أنهما لم يتحققا عفو الخاطر، ولا عبثاً، ولا من تلقاء نفسيهما، ولكنهما تحققا في سياق رؤية معلنة هي الأخرى، وليست الرؤية المعلنة سوى رؤية 2030 التي ترسم الطريق من هنا إلى آخر هذا العقد.

ولم تكن الرؤية قادرة على أن تحقق ما تسعى إليه، لولا مبدأ مهم كان الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد السعودي، هو الذي أعلنه عند بدء ولايته للعهد، وكان المبدأ اقتصادياً في شكله وفي مضمونه، وكان من كلمتين اثنتين هما: كفاءة الإنفاق.

ولا تعني كفاءة الإنفاق سوى أن يكون الإنفاق من جانب الدولة في مكانه، ولا فرق بعد ذلك أن يكون المبلغ المنفق ريالاً واحداً، أو يكون معدوداً بالآلاف والملايين والمليارات.

إن إنفاق دولار واحد في مكانه قضية اقتصادية في أولها وفي آخرها، وإنفاق ألف دولار في غير مكانه قضية يمكن أن يكون لها أي اسم تتسمى به، إلا أن يكون هذا الاسم مما يتصل بالاقتصاد بأي معنى من معانيه، وسواء كنا نتحدث عن الاقتصاد كعلم يدرسه طلابه، أو كممارسة يعرفها رجال العلم وخبراؤه ومتخصصوه.

ولم يبالغ في شيء مَنْ قال إنه لا توجد دولة فقيرة، ولكن توجد حكومة فقيرة في إدارة موارد هذه الدولة الفقيرة، أياً كان المورد، وأياً كانت طبيعته قياساً على سائر الموارد في بقية دول العالم.

والفقر في الإدارة بالنسبة إلى الموارد، هو فقر في الفكر، وكان الدكتور يوسف إدريس (يرحمه الله) يتحدث عن فقر الفكر وعن فكر الفقر.

والإدارة المختلفة هي البطل في حالة الرقم والنسبة المشار إليهما في ميزانية المملكة، لأنه في وقت سابق لم يكن أحد يتصور أن السعودية يمكن أن يكون لها مورد بخلاف النفط، فضلاً بالطبع عن أن يكون هذا المورد بمليارات الدولارات وفي بحر ثلاثة أشهر لا غير.

ولكن عندما جاء وقت آخر توافرت فيه الإدارة المختلفة، فإنها رأت أن في أرض السعودية ثروات كثيرة ليس من بينها النفط.

وأن الطقس مثلاً إذا كان قاسياً معظم شهور السنة، فالشواطئ يمكن أن تحول القسوة فيه إلى ثروة، إذا ما نجحت الوزارة المسؤولة في إقناع السائح بأنه سيجد على شواطئ المملكة، ما لا يجده في بلاده من شمس ودفء تشعه هذه الشمس.

كان كل المطلوب أن تعرف الرياض مدرسة مختلفة في الإدارة، وأن توسع هذه الإدارة من زاوية النظر وهي تتطلع إلى الثروات الممكنة والكامنة في البلد، ولم يخرج ما حدث عن هذا الإطار، وتبيّن لواضع 2030 أن إلى جوار النفط ثروات أخرى، وأنها ليست في حاجة إلا إلى أن تدخل ضمن الإطار الجديد في النظر، وفي التقييم، وفي التطلع إلى المستقبل.

كان أرسطو يفرق بين وجود للشيء بالقوة، وبين وجود للشيء نفسه بالفعل، وكان يقول إن قطعة الخشب مثلاً تظل موجودة بالقوة ما دامت قطعة من الخشب، فإذا تحولت إلى كرسي صارت موجودة بالفعل، وهذا تقريباً ما حصل عندما انتقلت الإيرادات غير النفطية في المملكة من وجود بالقوة على الأرض، إلى وجود بالفعل في الميزانية وبالنسبة والرقم معاً.