سوسن الأبطح
صحافية لبنانية، وأستاذة جامعية. عملت في العديد من المطبوعات، قبل أن تنضم إلى أسرة «الشرق الأوسط» بدءاً من عام 1988، كمراسلة ثقافية من باريس، ثم التحقت بمكتب الجريدة في بيروت عند افتتاحه عام 1995. تكتب بشكل رئيسي في المجال الثقافي والنقدي. حائزة درجة الدكتورة في «الفكر الإسلامي» من جامعة «السوربون الثالثة». أستاذة في «الجامعة اللبنانية»، قسم اللغة العربية، عام 2001، ولها دراسات وأبحاث عدة، في المجالين الأدبي والفكري.
TT

باريس «إيفل» و«إيفيلا»

لا تكفّ فرنسا عن ابتكار مفاجآتها الإبداعية، وهي إذ تتكيف مع خفّة العصر وروحه المرحة، فقد نصبت أول الشهر الحالي، بالتزامن مع «كذبة أول نيسان»، برج إيفل ثانياً إلى جانب البرج الأصيل، أطلقت عليه اسم «إيفيلا»، تدليلاً له، لأنه بحجم عُشر الأول. وهكذا كان على الزوار طوال 3 أيام أن يفركوا أعينهم، ليتأكدوا أن المعلم الأشهر في عاصمة النور أنجب بنتاً، كما كتبت الصحافة، وهي موجودة هنا لساعات محدودات، قبل أن تختفي وتصبح الصورة الملتقطة لهذه اللحظات النادرة تاريخية، ولن تتكرر.
وتجاهد باريس لتحافظ على تميزها الثقافي الذي هو وحده ما يبقيها متفوقة سياحياً وترويجياً على بقية العواصم الأوروبية المحيطة. المنافسة صعبة، بل شرسة، فالمتاحف والمعارض والمهرجانات كما العمران الأخاذ في برلين ولندن وجنيف وفيينا، ليس بقليل، لكن فرنسا، تمكنت من أن تضيف على كل مجال، ما يبقيها مشرقة وجذّابة. فرغم عظمة المتحف البريطاني، حين شيدت الأهرامات الزجاجية الشفافة في ساحة اللوفر أكسبته رونقاً لا يمحى. وحولت باريس مكتبتها الوطنية التي كانت في مبنى قديم وعريق، إلى تحفة عمرانية على شكل كتاب، زيادة على أهميتها المعرفية. ولم تتوقف فرنسا عن تجديد مركز جورج بومبيدو وتنويع معارضه، والكفاح من أجل المحافظة على «معهد العالم العربي»، بمعماره وموقعه المدهشين، يوم اختلف العرب على تمويله، ودفعت من جيبها، رغم أنه واجهة عربية أولاً ومصلحة ودعاية لثقافتنا لا تقدّر بثمن على نهر السين. ثم تسأل نفسك هل كان على فرنسا أن تقاتل لتقنعنا بضرورة تمويل برنامج فريد لتعليم اللغة العربية، في قلب أوروبا، ومنح شهادات باللغة العربية، تشبه «التوفل»؟
وبين المشروعات طويلة الأمد التي تحتاج ميزانيات جبّارة، والصدمات الإبداعية الدائمة، مثل بُريج «إيفيلا»، أو تغليف قوس النصر بـ25 ألف متر من القماش الفضي المزرق الهفهاف القابل للتدوير من تصميم البلغاري الراحل كريستو، الملفوفة بحبال حمر بطول 3000 متر، وهو ما اعتبره إيمانويل ماكرون «حلماً جنونياً»، تواصل فرنسا استراتيجيتها الوطنية الثقافية، التي تمتد إلى الأزياء وصناعة العطور، ورفاهية الأطباق الفرنسية وأصالتها، تماماً كما تحرص على إبقاء صدارتها في الأدب والمسرح والعروض البصرية والسينما، وهذا دونه عقبات.
فالثقافة بالنسبة للفرنسيين هي ماركتهم المسجلة التي تمنحهم سمعتهم وجزءاً مهماً من مداخيل دولتهم. لكن مفهوم الثقافة يتغير، والأمزجة بدورها تتحول، وثمة من بدأ يتساءل عما إذا لم تكن سمعة العاصمة الفرنسية بات مبالغاً فيها!
في تقرير صدر عام 2013 ظهر أن الأنشطة الثقافية المباشرة تدرّ على فرنسا أكثر من 100 مليار يورو في السنة، وما يزيد على 3 في المائة من الدخل القومي، أي ما يشبه مداخيل صناعة السيارات، ويعمل في مجالاتها المختلفة نحو 700 ألف مواطن. ما يجعل فرنسا تعتبر هذا القطاع استراتيجياً وأساسياً لتنميتها الاقتصادية. لكن التحدي كبر بعد الوباء. تبدّلت عادات الناس، وتقاعسوا عن العودة إلى قاعات العروض، وانخفض المدخول الثقافي إلى ما يقارب 46 مليار يورو، ولم يعد يشكل سوى 2 في المائة من الناتج المحلي. كل المجالات تأثرت، السينما والمسرح بشكل خاص، حتى الصحافة والكتب والهندسة جميعها لم تعد بخير. وعلينا أن ننتظر نهاية العام الحالي، لنعرف إن كانت فرنسا قد تمكنت، مع كل الجهود التي تقوم بها من معالجة ثغراتها وتقويم أوضاعها، واستعادة وهجها.
فمع أن الكتب اختفت من أيدي القراء في المترو، والصحف لم تعد موجودة والأكشاك ذبلت وتضاءلت معروضاتها، لكن القراءة لم تندثر. وتراهن إدارة معرض الكتاب الذي ينعقد بعد أيام، رغم غضب الناشرين وسخطهم، على أن الدخول المدفوع بتذكرة يبلغ سعرها 5 يوروات، لمن هم فوق السادسة والعشرين، لن يضرب المعرض. وهو رهان إن صحّ، في الوضع الاقتصادي الصعب الذي تعاني منه فرنسا، فمعناه أن الثقافة لا تزال بخير.
الإدارات السياسية الذكية تعيد تقييم أدائها، وتصحح مساراتها المعوجة، وهو ما يمكن أن يتحقق في السنوات المقبلة. إذ الخطة الوطنية التي وضعها الرئيس إيمانويل ماكرون حتى العام 2030 تفترض سخاء استثنائياً في الصرف على الثقافة يصل إلى 7 في المائة من مجمل الميزانية للعام الحالي، أكثر من التعليم الذي نال 6.5 في المائة من المبالغ المرصودة.
العمل التحديثي انطلق بالفعل على 4 محاور ثقافية رئيسية سيصرف عليها هذا العام 354 يورو. أولها، تطوير المسموع، والمرئي، وألعاب الفيديو، بوضع التشريعات وبناء عشرات الإستوديوهات وتدريب الكفاءات، ومضاعفة الإنتاج. المحور الثاني، القفز بالنتاج الموسيقي وتحفيز عالم الاستعراض الذي بات غواية الجيل الجديد. أما المحور الثالث فدعم المهن الفنية المتعلقة بالتراث. وعلى محور رابع تقوية عضد الشركات المتخصصة بتصدير المنتجات والأعمال الثقافية وتوزيعها حول العالم. سنة من العمل الكثيف ستطول 25 مؤسسة تم اختيارها، لدعم قدراتها وإمكاناتها البشرية والمالية.
فرنسا تعيد ترميم صورتها الثقافية على ضوء المتحولات، تنفض عن كاهلها ثوبها القديم، تتدثر بالرقمية، تعانق التكنولوجيا، دون أن تتخلى عن أصالتها، ووصفاتها التقليدية المتجذرة في التاريخ. «الاستثناء الثقافي» مستمر في عاصمة النور والديجور، لكن الرؤية تعاد صياغتها، وتجدد أدواتها، والنتائج ستطل برأسها مطلع العام المقبل.