خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

عن نجيب محفوظ وجعفر العمدة

«رأيتني استقبل في بيتي الأستاذ (غ) الناقد الكبير»، يقول نجيب محفوظ في حلمه رقم 474 من أحلام فترة النقاهة. «وعلى الرغم من ماركسيته فإن نقده اتسم بالموضوعية. ولذلك كان الناقد الماركسي الوحيد الذي أنصف أدباء غير ماركسيين…».
قضية تحكم العقائديين في الفن قديمة قدم الأفكار السياسية والاجتماعية الكبرى. وفي العصر الحديث لدينا تجربة واضحة. قدمت روسيا قبل الثورة الشيوعية فناً متفرداً. يكفينا أن نذكر في الأدب ليو تولستوي وتشيكوف، وفي الفن التشكيلي كاندينسكي، وفي الباليه «البولشوي» و«باليه روس»، وفي الموسيقى تشايكوفسكي ورخمانينوف وسترافنسكي، لنعلم الفجوة بين المنتج الثقافي الروسي قبل الثورة الشيوعية وبعدها. المنتج لم يختف بالطبع. بحكم القصور الذاتي لا يختفي الدفع فجأة، لكن قوته تذايلت حتى تسطحت. ومن بقي على قيد الحياة من الأسماء المذكورة هرب إلى أوروبا وأميركا.
حلم نجيب محفوظ معني بتجربة مصر التي سيطر الماركسيون على مفاتيح الثقافة فيها منذ الخمسينات. فلم تعد تطرح من مواليد الثورة ورباية مدارسها نجوماً بنفس قامة ولا غزارة من ولدوا وتربوا في مدارس العهد السابق لها. العقائدية في الفن تقتل الاحتمالات، أو تضطرها إلى ممر نحيف وظيفياً، فاقد المرونة، كشريان متصلب. ثم جاء بعد الماركسيين الإسلامجية. والآن نعاصر موجة جديدة من النقد العقائدي، دافعه الصوابية السياسية. القوة السياسية التي تقف وراءه تسمي نفسها ليبرالية. لكنها في الحقيقة تقدم نوعاً من الرقابة الاستباقية، المعنية بحظر التفكير خارج صندوق معين، وحظر المرور في اتجاهات بعينها. تقدم لنا ستامبا لصناعة الشخصية. كيف نقدم الذكر، وكيف نقدم الأنثى. كأننا نعيد صياغة العالم على نول «نتفليكس»، ومزاج «بلاك لايفز ماتر»، ورغبات نسويات الجيل الثالث. تفرض معايير لو طبقناها على السينما بأثر رجعي لخسرنا أفلاماً عظيمة، وشخصيات انحفرت في ذاكرتنا السينمائية. منها فيتو كورليوني «العراب» (Godfather)، المجرم القاتل زعيم المافيا الذي قدمه ماريو بوزو وفرانسيس فورد كوبولا في صورة رب العائلة العطوف المتفاني. لخسرنا أفلام تارانتينو، لمنعنا ذلك المسلسل الإسباني الذي يحتفي بلصوص مسلحين يسطون على بنك. لكننا لا نفعل. لأننا نعتقد أن المشاهدين ليسوا أغبياء، وأننا لسنا أوصياء.
وهذه الموجة - كسابقاتها أيضاً - تعتقد أن هذا طريق الصلاح، فتتحدث إلينا بفوقية وأستاذية باعتبار أنها تفوقنا أخلاقياً وثقافياً. مصطلحاتها جاهزة، وخطابها لا يحتمل شكاً، وبندقية مذماتها محشوة بالذخيرة، مع شعور بالاستحقاق يجعلها لا تتردد في إطلاقها في وجهك زخات.
طيب، وما المشكلة، إنها فئة تعبر عن رأيها، أليست تلك الحرية؟ نعم يا طيب، حرية اليد الواحدة في الحركة صفعة على وجه. وهذا الجزء الأيمن أو الأعسر من جسد الحرية، لا يكتمل إلا بحرية الآخرين أيضاً في أن يدلوا بآرائهم ويعبروا عن أذواقهم. هؤلاء لا يتركون الأمور عند حد الجدل الفكري، لقد صاروا السلطة المهيمنة على الإبداع الفني عالمياً، يتسلحون بثقافة الإلغاء، باحتجاز مخالفيهم من المبدعين عن الجمهور، أو إعدامهم معنوياً. بالمنع المادي الدؤوب لمنتج فلان وفلان وفلان من أن يظهر، ولو في خبر في صحيفة ثقافية. أحياناً ينجحون، وأحياناً يفلت منهم صاحب كاريزما لم يدركوه قبل أن يرفع رأسه ويشتد عوده. فيقذفونه بالحجارة كلما مر.
التحدث إلينا بفوقية يبوح لنا باعتقادهم أننا أغبياء، وأنهم أوصياء. لو رأينا شخصية كجعفر العمدة مثلاً سنتخذ منه قدوة. يريدون إلغاءها من المنبع، من الخيال الدرامي. هؤلاء فنانون يقيمون الحجة على الفن، لا على مسلسل، فيه من العيوب ما فيه، كالمسلسلات التركية والمكسيكية والهندية و«السوب أوبرا». اليوم هم والمعترضون على حواجب منى زكي، وغداً سيخرج من يعترض على تقديم شخصية متعددة العلاقات لم تنتقم منها الأحداث، أو شخصية ارتكبت جريمة كاملة وماتت على سريرها بعد عمر طويل. وبالنهاية، إما أن نقبل العيش تحت سطوة أفكارهم، أو يُقَصَّ الفن من هنا ومن هناك حتى لا يبقى إلا المنتج الداجن، المناسب فقط للناشئة حتى سن 12 سنة، أو موجة جديدة من السينما النظيفة الباهتة السطحية الأخلاق.
هذه الموجة الجديدة من القامعين «الليبراليين» ليست أكثر من وريث لحراس «الفن الملتزم». يمارسون علينا غطرستهم الذوقية القديمة. إنهم أنصار «الفن الراقي». إنهم مثقفون ونحن جهلة. يا سلام! الفن «البلدي» ضلع أساسي في التاريخ الإنساني. تلحين الترانيم الكنسية بألحان الشارع الألماني كان عاملاً أساسياً في ذيوع الإصلاح الديني في القرون الوسطى. متاحف الفنون في العالم كله تضع الآن لوحات «البوب أرت» لأندي ورهول إلى جوار مدارس الفن الأخرى، تحتفي بها كما احتفى هو بعلب شوربة الطماطم المتراصة على الأرفف فنال غضب أنصار «الفن الراقي». والدراما ليست استثناء. زماننا ليس استثناء. وإلا لعزفت الجماهير عن الفن. ولانهارت الصناعة.
هل يعني هذا ألا نعترض على عمل فني مهما كان؟ لا طبعاً. لا بد من نقد الفن لأن هذا جزء مهم من تطوره. إنما أتحدث عن حيثيات النقد الفني. في فيلم «مواطن ومخبر وحرامي» يعترض شعبان عبد الرحيم على رواية لأن بطلها لم يظهر فيها مرة واحدة وهو يصلي. الأوصياء الجدد يعتقدون أنهم مختلفون عن هذا. لكن كل الاختلاف أن هذا الرجل نقد الرواية نقداً ديني الدافع، وهم ينقدون العمل الفني نقداً صوابي الدافع. هذا يقول البطل لم يركع ركعة، وهؤلاء يقولون البطل لم يبك ولا مرة. لقد نجا نجيب محفوظ بشخصية «سي السيد» من هذه المقصلة. لكنه دونها في حلمه. لو عاد إلينا لوجد الأستاذ «غ» مات، ولوجد صحبه المتزمتين تكاثروا - مجازاً وحرفياً - فأنجبوا أمناء سر جدداً، بلائحة وصاية جديدة.