في كل سنة، مع اقتراب تاريخ 13 أبريل (نيسان)، الموعد «الرسمي» لاندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة، تُكتب العشرات من المقالات والتحليلات السياسيّة عن الذكرى متناولةً مسببات الحرب بشقيها الداخلي والخارجي، وأدوار الأطراف المحليّة والإقليميّة والدوليّة فيها. وبطبيعة الحال تتناقض التفسيرات والتأويلات بما يتناسب مع الانقسامات اللبنانيّة التاريخيّة التي لا تزال قائمة ولو بمسميات مختلفة ومتباينة.
المشكلة أن الاستحضار النظري لهذه الحرب القاسية، رغم أهميته العلميّة والأكاديميّة بما يصب في خدمة الباحثين لدراسة «الحالة» اللبنانيّة المعقدة، بكل تلاوينها وتشابكاتها، يبقى مقتصراً عن تأدية الدور المطلوب منه في تقديم الحلول الناجعة لإنجاح الصيغة اللبنانيّة المتعثرة.
تكمن المشكلة في عمقها بمستويات الأداء السياسي اللبناني التي وصلت إلى منحدرات غير مسبوقة، ارتكزت إلى استيلاد أعراف تتناقض مع الدستور والمواثيق، وتتلاءم مع المصالح الفئويّة لأطراف معيّنة، وتقف على طرفي نقيض مع المصلحة الوطنيّة اللبنانيّة، وهو ما أدخل البلاد تباعاً في حالات من الشلل المؤسساتي المستدام، ما انعكس انهياراً شاملاً في الاقتصاد والاجتماع والسياسة... والأخلاق!
لم تكن المشكلة يوماً في لبنان تتعلق بالقوانين والتشريعات التي من الواضح أن ثمّة فوائض منها والكثير منها لا يسلك طريقه إلى التنفيذ، وفي ذلك مشكلة حقيقيّة تسبب المزيد من الانحلال المجتمعي الذي يرى أن الالتزام بالقوانين غباء وتجاوزها ذكاء! المشكلة تكمن في استقواء بعض القوى اللبنانيّة على الدولة بفكرتها ومفهومها ووظيفتها في السياسات الخارجيّة والدفاعيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة.
من هنا، لا تبدو الاستعادة الفولكلوريّة السنويّة لذكرى اندلاع الحرب كافية لمقاربة الإخفاقات السياسيّة والهيكليّة الكبرى التي تعانيها الجمهوريّة اللبنانيّة، كجمهوريّة برلمانيّة ديمقراطيّة ترتكز إلى دستور أحكامه واضحة لناحية فصل السلطات وتوازنها وتعاونها، فضلاً عن أسس وقواعد تشكيلها.
أن تمارس بعض القوى السياسيّة سياسة التنكيل المتعمّد بالدستور من خلال الانتقاء الموسمي لأحكامه التي تتناسب معها وتتغاضى عن، لا بل تعطّل، تنفيذ الأحكام الأخرى -لا سيّما الإصلاحيّة منها- التي يمكن النفاذ من خلالها نحو تطوير النظام السياسي عبر تجاوز الحالة الطائفيّة والمذهبيّة التي تعتريه وتنزع تالياً فتيل الانفجار المتكرر ولو اختلفت الذرائع.
لقد نصّت وثيقة الوفاق الوطني اللبناني (اتفاق الطائف) على إنشاء هيئة وطنيّة لإلغاء الطائفيّة السياسيّة، من خلال تطبيق نظام المجلسين (الذي كان معتمَداً في لبنان في بعض مراحل الانتداب الفرنسي قبل الاستقلال سنة 1943)، بحيث «يُحرّر» المجلس النيابي من التمثيل الطائفي وتتخذ الحياة البرلمانيّة والديمقراطيّة عندئذ منعطفات مختلفة على طريق بناء الدولة العصريّة، وتحظى الطوائف بتمثيل عادل في مجلس الشيوخ، بما يبدّد مخاوفها من فقدان تمثيلها في الصيغة السياسيّة المحليّة.
بطبيعة الحال، لم يحظَ هذا الطرح الإصلاحي المهم بالاهتمام المطلوب لتطوير الصيغة اللبنانيّة، وتمت إشاحة النظر عنه عمداً منذ نحو أربعة عقود، وهو ما أبقى البلاد رهينة المصالح الطائفيّة التي تُستحضر مداورةً من الأطراف المختلفة، بما يؤمّن مصالحها وحساباتها الفئويّة الضيّقة، وهو ما يبقي عمليّاً الوضع في حالة تأهب للانفجار في أي وقت من الأوقات، مثلما حدث في قضيّة تطبيق التوقيت الصيفي، عندما أخذت مسألة إداريّة تافهة أبعاداً طائفيّة مقيتة كادت تُشعل البلاد في لحظة قاسية.
لبنان يستحق أن يحظى بتغيير جدّي يعيد شبك علاقاته المقطوعة مع محيطه العربي والدولي التي ابتعد عنها في السنوات القليلة الماضية، ما جعله خارج بيئته وموقعه الطبيعي في محاولة لجرّه نحو مواقع مغايرة لهويته التاريخيّة. هل سيحدث هذا التغيير؟ إنه السؤال الذي قلّما حظي بإجابة شافية ووافية.
8:32 دقيقه
TT
في ذكرى اندلاع الحرب اللبنانيّة: أبعد من القراءات التقليديّة!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة