إنعام كجه جي
صحافية وروائية عراقية تقيم في باريس.
TT

دائماً سأرى وجهك

«دائماً سأرى وجهك» هو عنوان فيلم فرنسي بدأ عرضه قبل أيام. والموضوع ليس جديداً. سبق للروايات والسينما أن أشبعاه تحليلاً: علاقة الضحية بالجلاد. وهي ثنائية غير بريئة. فالتاريخ يشهد على ضحايا تحولوا إلى جلادين. وهناك أحياناً مصادفات تجمعهما في غفلة من الزمن. أو كما يقول قيس بن الملوّح:
«وقد يجمع الله الشتيتين بعدمَا
يظنَّان كلَّ الظنّ ألا تلاقيَا»
بدأت في فرنسا، اعتباراً من 2014، تجربة تسمى «العدالة الترميمية». بروتوكول مستورد من كندا، يسمح لضحايا وقائع السطو المسلح والاغتصاب واعتداءات الشوارع، أن يتواجهوا مع المحكومين الذين كانوا سبباً في صدماتهم. ووافق عدد من السجناء على حضور تلك اللقاءات. وهي جلسات جماعية يديرها متطوعون ومتطوعات من الناس العاديين. ممرضة متقاعدة. سائق شاحنة. معلم في مدرسة للمشاغبين. مواجهات دورية لمرتين في الأسبوع على مدى ستة أشهر. تشبه ما يجري في اجتماعات حلقات مدمني الكحول والمخدرات، أو الراغبين في الإقلاع عن الإدمان.
الهدف كسر الحاجز النفسي الذي يمنع الضحية من استئناف حياتها بشكل طبيعي بعد الحادث. تغمض عينيها لتنام وترى وجهَ المعتدي في الصحو والغفوة. أمَّا المتطوعون لإدارة الحوار الجماعي فقد مرُّوا بدورات تدريبية في كيفية التعامل مع مواقف الغضب والتشنج. عليهم التزام الحياد. هم ليسوا قضاة ولا أطباء نفسانيين.
التقطت المخرجة جان هيري الفكرة ونقلتها إلى الشاشة في فيلم صادم. هل كان بين الممثلين عرب وسود؟ نعم. الواقع يقول إنَّ نسبتهم ملحوظة في السجون الفرنسية. لكنَّ بين الضحايا عرباً أيضاً. كانت نوال بائعة في متجر للأغذية اقتحمه ملثمٌ ووضع مسدسه بين عينيها. سقطت عن مقعدها أمام الحاسبة، انهارت على ركبتيها. كانت ترتعد وكان يسحب الوريقات ويغرف القطع المعدنية من المتجر، فوق رأسها، ويكدسها في حقيبته. سبع دقائق كأنها دهر.
يتناول من يرغب الكلامَ عصا خشبية صغيرة من على الطاولة الدائرية. يقول ما يريد ثم يسلمها للمتحدث التالي. تأخذ نوال العصا وتقول إنَّها لا تنتظر شيئاً من تلك اللقاءات. تريد فقط أن يعرف اللصُّ الجالسُ أمامها كيف حطّم حياتَها في سبيل حفنة من النقود. إنَّها اليوم كائنٌ مفزوع. تنام وتستيقظ وتمشي وتأكل وتشرب وتعيش مع الخوف. تتصوَّر في كل خطوة أنَّه قد يصادفها في الشارع ويؤذيها مجدداً.
بعينين واسعتين مفتوحتين بدهشة طفل، يستمع إليها عيسى. شابٌّ أفريقيٌّ لم يتجاوز العشرين. يأخذ العصا الخشبية ويقول، «هل تتصوّرين أنّني لم أكن خائفاً؟ كنت أرتجف أكثرَ منك. بدأ خوفي قبل العملية واستمرَّ بعدها. كنت أخشى النزول إلى الشارع وأتلفتّ حيثما سرتُ. عرفت أنَّ السجن مصيري ذات يوم».
مشاهدُ الفيلم ثقيلة على الممثل وعلى المتفرج. وافقت كلويه على حضور جلسة تجمعها بشقيقها الخارج من السجن حديثاً. أمضى فيه ثلاثَ سنوات بتهمة الاعتداء على المحارم. كانت في السابعة، وكان هو في الثانية عشرة. تصوَّرت الأمر مجرد لعبة مؤذية. ولما كبرت فهمت وتقدَّمت بشكوى ضد أخيها. وهي لا تودُّ أن تلتقيَه بعد تلك الجلسة. ولا أن يعرف عنوانَها ولا رقم هاتفها ومكان عملها. وجهها مغلق مثل تمثال من حجر. تمثال جميل يختزن أحزانه. يحمل أثقالَه في داخله.
تبدو فواصلُ الصمت في هذا الفيلم أكثرَ من الحوارات. تجيد الكاميرا قراءة العيون وترصد رعشة الأنامل. تستنطق الكلمات المتعثرة على الشفاه. الواقفة شوكة في الحنجرة. لعلَّ «العدالة الترميمية» تنفع في تحريرها.