أكرم البني
كاتب وصحافي سوري وناشط في مجال حقوق الإنسان وإحياء المجتمع المدني. مواليد مدينة حماة - سوريا 1956. درس الطب البشري في جامعة حلب. يكتب في الشأن السوري.
TT

سوريون عرب... سوريون أكراد!

لم يميز الزلزال المدمر بين السوريين عرباً وأكراداً، فأرواحهم ومساكنهم وممتلكاتهم كانوا عنده سواء، لكن التمييز واستهداف الهوية الكردية، حلّا في جنديرس البلدة الأكثر تضرراً بالزلزال في ريف عفرين، التي لم تكد تسكّن آلامها وتضمد جراحها حتى تعرضت لجريمة بشعة، نفذت بدم بارد، ذهب ضحيتها أربعة أكراد من أسرة واحدة، والسبب، إشعالهم النار في موقد أمام منزلهم كتقليد للاحتفال بعيد النوروز (21 مارس/آذار)، أما الفاعل، فهم مسلحون من فصيل عسكري يسمى «جيش الشرقية» تابع لـ«حركة التحرير والبناء» التابعة بدورها للائتلاف السوري المعارض، والذريعة، اعتبار إشعال النيران «بدعة وكفراً، كذا!»، والنتيجة، تحول مراسم تشييع ضحايا جنديرس إلى مظاهرات شعبية حاشدة في مختلف بلدات عفرين، ساندتها كل الأصوات المؤمنة بالحرية والعدالة، تحدوها صرخة حق، تطالب بخروج جميع التشكيلات المسلحة من المناطق السكنية والمدن، ودخول لجان دولية بدل الاحتلال التركي، ونفوذ الجماعات العسكرية السورية التابعة له.
من المخجل تسويغ هذا الانتهاك على أن مثله يحدث ضد العرب في مناطق سيطرة الأكراد، ومن تبسيط الأمور تحميله لهيئة تحرير الشام، حين سارعت لاستثماره كي تنال من جماعات المعارضة المسلحة المنافسة لها، وتتفرد بالسيطرة على إدلب وأريافها، ومن المعيب التحرر من المسؤولية واعتبار ما حصل «اندفاعة فردية» ارتكبها مسلحون غير منضبطين أو عملاء مندسون يضمرون شراً لزعزعة الاستقرار والأمن، فهذا الانتهاك هو استمرار لما تمارسه الجماعات المسيطرة من اعتقال تعسفي وإخفاء قسري، وسوء معاملة وتعذيب ونهب ومصادرة ممتلكات بغرض تهجير من تبقى من الأكراد، وفرض شكل من أشكال التغيير الديمغرافي، ويبقى أنه من الخطأ والخطر عدم الاعتراف بأن مثل هذا الانتهاك ليس سوى تحصيل حاصل لحالة من الاحتقان والتعبئة المغرضة في الحقل المعارض، العربي والكردي، كرّست وضعاً متناحراً لا يقبل الآخر ويستسهل الفتك والتنكيل به.
المشهد، تحول أقلية قومية عانت من التمييز والتهميش إلى قوة وازنة، لم تنجح فحسب في التعاون عسكرياً مع قوات التحالف الدولي والتصدي لتنظيم «داعش» وهزمه، وإنما تمكنت من بناء إدارة ذاتية تمتد على ربع مساحة البلاد، والمشهد أيضاً، استئثار الإسلامويين بالوجود العربي المعارض، وتحويله إلى مجرد أداة لمواجهة «الأكراد».
وبالنتيجة فإن المعارضين السوريين، عرباً وأكراداً، باتوا مختلفين في كل شيء اللهم إلا في دعم لغة العنف وتغذية منطق الغلبة، كما في فشل كياناتهم جميعها في تأسيس نخبة سياسية قادرة على اتخاذ قرارات وطنية مستقلة، تعزز جبهة التغيير وتخفف من ارتهانها للتوظيفات الخارجية.
صحيح أن ثمة اندفاعات قومية استقلالية تنامت لدى الأكراد، وجرى التعبير عنها بشعارات انفصالية، ربطاً بإحساسهم العميق بالمظلومية وشدة القهر والتمييز والتهميش التي لم تفارق حياتهم، والأهم بما آل إليه وطنهم السوري بعد عنف منفلت وصراعات بينية خلفت تخندقات مهددة لحيوات الناس ولعافية التنوع الإثني والديني، وصحيح أن ثمة قلة من الليبراليين العرب دأبت على مناهضة الظلم والتمييز السلطويين، ودعمت دستورياً وقانونياً حقوق الأكراد القومية، بما فيها حقهم في تقرير مصيرهم، لكن الصحيح أيضاً أن غالبية قوى المعارضة بخاصة القومية والدينية، لم تعترف عموماً بالأكراد كشعب له حقوقه وثقافته القوميتان، منها من استمر في تعميم أفكار شوفينية تطعن بهم، واعتبر وجودهم حدثاً مؤامراتياً صنعه الاستعمار، وفرض على الأحزاب الكردية اشتراطات مسبقة قبل التعاون معها ليبقيها أسيرة «سياساته الوطنية»، ومنها من حاول التذاكي والالتفاف على حق تقرير المصير، إن بالترويج لدولة المواطنة بصفتها الحل الأمثل لمشكلة التمييز القومي، وإن بادعاء التنازل ومنح مناطق الأكراد هامشاً من الإدارة الذاتية، يضمن لهم خصوصيتهم في الثقافة واللغة والتمثيل، والأسوأ مَن رفع السقف وتقصد تقديم وعود كاذبة لكسب ود الأكراد واستخدامهم كوقود في معاركه وتجاذباته.
واليوم، مع الاعتراف بتعقيدات الوضع السوري وسوء ما ينذر به المستقبل، إن لجهة انعدام فرص الحل السياسي وتصاعد حدة التنافس بين القوى المتدخلة عسكرياً فيه، وإن لجهة ما يثار عن انفتاح ومصالحة بين نظام دمشق وحكومة أنقرة، الراعي المباشر للوجود المعارض في شمال غرب سوريا، وإن لجهة حالة التردي الاقتصادي والمعيشي التي تعم البلاد، والصورة المحبطة لمناطق سيطرة المعارضة، العربية والكردية، في ظل قصور مشروعات التنمية، وانتشار ظواهر الفساد كما نزعات الاستبداد والاستئثار وسوء استغلال السلطة، تنهض أسئلة مشروعة، يفترض بالنخب الكردية والعربية الإجابة عنها، كي لا تقف مرة أخرى نادمة وهي تتحسر على خسارة وطنية لم تسع لتداركها.
ألم تغدُ اليوم مسؤولية وطنية وأخلاقية إعادة بناء الثقة بين الأكراد والعرب السوريين عبر الاعتراف المتبادل بالحقوق المتكافئة، والمبادرة للتخلص من المواقف العدائية المسبقة ومن نهج التشكيك والاتهام وتشجيع الحوارات البينية وبناء التوافقات على قاعدة المعاناة المشتركة من القهر والتمييز، والحاجة الطبيعية للعيش بحرية وكرامة؟ أليس الأجدى بقيادات المعارضة الكردية والعربية التي تضع يدها على قلبها، الأولى خوفاً من أي تحول في السياسة الأميركية والثانية خشية من أي تبدل في المواقف التركية، وكلاهما خوفاً من تصاعد عنف النظام وحلفائه، أن تلجأ إلى خيارات وطنية للتواصل والتعاضد فيما بينها، لتصون حضورها وإرادتها في التغيير ورفض الاستسلام للواقع المزري القائم؟
هل هو رهان خاسر على فرصة يفترض بالمعارضة استثمارها، مع تفاقم الاستنقاع السوري، لتدوير الزوايا والتحرر من الوصاية، القومية والدينية، كالمسارعة لفك الارتباط الكردي مع حزب العمال الكردستاني، كما العربي مع الجماعات الإسلاموية بما في ذلك رفع الغطاء عن «هيئة تحرير الشام» وما عاثته تشويهاً في المجتمع؟ والأهم، لِمَ لا يكون أحد وجوه الوفاء لتضحيات الشعب السوري العظيمة، تنافس المعارضة، كرداً وعرباً، ليس على التنابذ والتناحر، بل على بناء نموذج جاذب في مناطق سيطرتها، وتقديم تجربة وطنية فيها حد يتنامى من العدالة والكرامة واحترام الحريات وحقوق الإنسان؟