أليكس كينغسبري
TT

الخوف يحيط بالرجل الذي سرَّب أوراق «البنتاغون»

أُعلن قريباً عن إصابة دانييل إلسبرغ الذي اشتهر لتسريبه «أوراق البنتاغون» ونشاطه ضد الأسلحة النووية، بالسرطان.
يبلغ إلسبرغ 91 عاماً، وقد نسخ وثائق سرية مكونة من 7 آلاف صفحة تخص المؤسسة العسكرية، وتتناول حرب فيتنام، وقدمها إلى «نيويورك تايمز» و«واشنطن بوست» عام 1971. وتقدمت الحكومة بدعوى قضائية لوقف نشر الوثائق؛ لكن المحكمة العليا دافعت عن حق حرية الصحافة في مواجهة القيود المسبقة، حسبما يكفل التعديل الأول.
وأثارت الوثائق موجة من الغضب تجاه الحكومة لكذبها بخصوص مسار الحرب التي كانت تفتقد التأييد الشعبي بالفعل. عام 1971، واجه إلسبرغ اتهامات عدة، منها انتهاك قانون التجسس الصادر عام 1917؛ لكن الاتهامات أسقطت عام 1973 بسبب سوء سلوك الحكومة.
عام 2021، كشف إلسبرغ أن الحكومة وضعت خططاً لمهاجمة الصين بأسلحة نووية أثناء الأزمة التي اشتعلت حول مضيق تايوان عام 1958.
مع تنامي التوترات بين الولايات المتحدة والصين، وتفاقم مشاعر انعدام الثقة من جانب الرأي العام إزاء الحكومة، وازدياد التهديدات النووية بخصوص الحرب في أوكرانيا، يكتسب عمل إلسبرغ أهمية جديدة.
وقد تحدث إلسبرغ إلينا من منزله في كاليفورنيا حول الدروس التي تعلمها، عند سؤاله: عندما تتطلع حولك اليوم، ما أكثر ما يخيفك؟ فأجاب قائلاً: «أغادر العالم في حالة رديئة للغاية على مستوى الأصعدة التي حاولت جاهداً العمل على تحسينها خلال حياتي. وأرى الرئيس بايدن محقاً في قوله إننا نعيش أخطر اللحظات، فيما يخص إمكانية اشتعال حرب نووية، منذ أزمة الصواريخ الكوبية. ليس هذا العالم الذي كنت آمل رؤيته عام 2023. لقد علمنا منذ اتفاق باريس عام 2016 وقبله، أن الولايات المتحدة عليها تقليص انبعاثاتنا الكربونية بمقدار النصف بحلول عام 2030؛ لكن هذا لن يحدث».
وعن سؤال عن زيادة أعداد الأشخاص المصرح لهم بالاطلاع على مواد سرية بدرجة بالغة، منذ تسريب «أوراق البنتاغون»، لماذا لم يقدم مزيد منهم -بخلاف إدوارد سنودن وتشيلسي ماننغ- على فعل ما فعله؟ لماذا لا يكشف مزيد من الأشخاص لدى اطلاعهم على أمر يعترضون عليه أخلاقياً، عن ذلك الأمر؟ قال: «هذا سؤال كثيراً ما طرحته على نفسي. ومثلما أخبرني سنودن وأخبر آخرين، فإن: كل من تعاملت معهم قالوا لي إن ما نفعله خطأ، وإنه غير دستوري، وإننا نجمع معلومات عن أميركيين لا ينبغي لنا جمعها. وينطبق القول ذاته على كثير من زملائي في الحكومة ممن عارضوا الحرب. بالتأكيد، يساور الناس القلق بشأن تداعيات ما قد يفعلونه. قبل قضيتي ومحاكمة إدارة أوباما لمن يكشفون تجاوزات، لم يكن عليهم القلق بشأن التعرض للسجن، إلا أنه بعيداً عن ذلك، فإنهم يخشون فقدان وظائفهم والمخاطرة بفقدان التصريحات التي يعتمد عليها عملهم. إن الأشخاص الحاصلين على مثل هذه التصاريح غالباً ما يكونون قد استثمروا عمرهم بأكمله لإظهار أنهم جديرون بالوثوق بهم وائتمانهم على أسرار. وبالتالي، تصبح الثقة جزءاً من هويتهم، الأمر الذي يصعب التضحية به».
وبسؤاله عن منظومة فرض السرية وأنها هي في جوهرها منظومة للحماية، وأنه يتحدث عنها أحياناً، باعتبارها منظومة تحكم وسيطرة، يقول السيد إلسبرغ: «هذه حقيقة الأمر، إنه نظام حماية ضد فضح الأخطاء والتوقعات الكاذبة والحرج بمختلف أنواعه؛ بل وربما حتى الجرائم. كما أن منظومة السرية ترمي في الجزء الأكبر منها لحماية المسؤولين والإدارات من الحرج ومن المساءلة، وإمكانية التقاط خصومهم هذه الأشياء وهزيمتهم من خلالها».
وبسؤاله عما يعنيه أن يعيش محاطاً بأفكار الحرب النووية وحكومة لا تخضع للمساءلة؟ قال: «داخل مكتبي، وضع مساعد لي بعض الملصقات عليها عناوين بهدف ترتيب رفوف الملفات. وجاءتني زوجتي ورأت عناوين من عينة (الإبادة) و(التعذيب) و(المذبحة) و(الإرهاب) و(تفجير المدنيين)، فقالت لي: كيف لي أن أتزوج بشخص لديه مثل هذه الملفات داخل مكتبه؟ إلا أن هذه كانت حياتي منذ أن بدأت العمل لدى مؤسسة (راند) عام 1958. وأفكر في الحرب النووية، ليس لإعجابي بها، وإنما لرغبتي في منعها، وجعلها أمراً يستحيل التفكير فيه؛ لأنني أهتم بأمر العالم الذي ستقضي عليه هذه الحرب».
وبسؤاله عما قاله روبرت مكنمارا الذي تولى منصب وزير الدفاع أثناء أزمة الصواريخ الكوبية، ذات مرة: «مزيج الطبيعة البشرية القابلة للخطأ والأسلحة النووية سيدمران الدول»، فلماذا لم تستخدم الأسلحة منذ عام 1945؟ قال السيد إلسبرغ: «لقد عاينَّا استخدام الأسلحة النووية عدة مرات. ويجري استخدامها اليوم من كلا طرفي الحرب الدائرة بأوكرانيا. ويجري استخدام هذه الأسلحة كتهديد، تماماً مثلما يفعل السارق الذي يسطو على بنك بإشهاره سلاحاً نارياً، حتى وإن لم يجذب الزناد. أنت محظوظ إذا نجوت من الموقف من دون أن ينطلق الزناد، وقد فعلنا ذلك بالفعل عشرات المرات؛ لكن في نهاية الأمر، مثلما يعرف أي مقامر، تحين لحظة ينفد فيها رصيدك من الحظ.
ولكن على مدار 70 عاماً، أطلقت الولايات المتحدة تهديدات بالإقدام على الاستخدام الأول للأسلحة النووية، تماماً مثلما يفعل بوتين اليوم في أوكرانيا. لم يكن ينبغي لنا قط فعل ذلك، ولا ينبغي لبوتين فعله اليوم. ويخالجني القلق من أن تهديده المروع بإشعال حرب نووية لإبقاء السيطرة الروسية على القرم ليس مجرد تهديد فارغ. وقد تعهد الرئيس بايدن خلال حملته الانتخابية عام 2020 بإعلان سياسة عدم المبادرة إلى استخدام الأسلحة النووية أولاً. واليوم، ينبغي عليه الحفاظ على هذا الوعد، وينبغي للعالم مطالبة بوتين بالالتزام ذاته.
أشعر بأنني رائع. لطالما شعرت بتقدير تجاه نعمة الحياة حتى قبل تشخيصي الأخير، عندما أخبرني الأطباء أن أمامي ما بين 3 و6 شهور على قيد الحياة. وقيل سابقاً إنه من الجيد أن تعيش الحياة وكأن اليوم آخر أيامك في الحياة؛ لكن هذا أمر غير عملي. إلا أن مسألة خوضي هذا الشهر وكأنه آخر شهر لي في الحياة تسير على نحو جيد للغاية.
كنت متحرجاً من الإعلان عن إصابتي بالسرطان، كي لا أبدو كمن يحاول جذب الأنظار. إلا أن ولديَّ رأيا أنه ينبغي لي إعلان هذا النبأ بين أصدقائي. وكانت هذه أيضاً فرصة لتشجيعهم على الاستمرار في العمل من أجل السلام ورعاية الكوكب. ومثلما قلت من قبل، فإن جهودي طوال الـ40 عاماً الماضية لتجنب شبح الحرب النووية لم تثمر كثيراً. ومع ذلك، فإنه ليس هناك من مسار آخر أفضل يمكنني تخيل أنني كان بمقدوري أن أفني عمري فيه، واليوم أواجه فصل الختام في حياتي بشعور بالسعادة والامتنان».

* خدمة «نيويورك تايمز»